تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > مروة فتحي > مُدرسة العلوم وصناعة الشغف

مُدرسة العلوم وصناعة الشغف

لا أتحدث عن درجات أو اختبارات، بل عن شغف حقيقي يولد من داخل الطالب نفسه، الأمر الذي أدهشني مؤخرًا مع ابني، فمادة العلوم التي كانت تبدو كابوسًا بالنسبة له في السنوات السابقة لدرجة إهمال مذاكرتها لدرجة جعلته يحصد درجة النجاح ليس إلا، تحولت فجأة إلى مادة يحبها، يذاكرها من تلقاء نفسه، ويحقق فيها نتائج رائعة، كل هذا لم يكن بسبب سهولة المادة، بل لأن طريقة ميس أسماء المدرسة التي تشرح له المادة فجرت بداخله الفضول والرغبة في التعلم، وهذا المثال الشخصي ليس حالة فردية؛ بل يعكس حقيقة أكدت عليها الدراسات التربوية، فالمعلم ليس مجرد ناقل معرفة، بل صانع شغف الطالب وموجه اختياراته الدراسية.

منذ عقود والباحثون يناقشون التأثير العميق للمعلم في تشكيل ميول الطالب ومساره الدراسي، فالمدرس ليس مجرد وسيط بين الكتاب والطالب؛ بل هو من يضفي على المادة روحًا أو يسلبها معناها، لذلك صدق أحمد شوقي حين قال: "كاد المعلم أن يكون رسولًا".. هذا التأثير لا ينحصر في التفوق الأكاديمي فقط، بل يمتد إلى تكوين الشغف، اختيار التخصص، وتحديد ما إذا كانت المادة بوابة للحب.. أم للعقد.

تلعب شخصية المعلم وطريقة شرحه دورًا محوريًا في تحديد علاقة الطالب بالمادة، فوفقًا لعدد من الدراسات التربوية الحديثة، يتشكل انطباع الطالب الأول عن أي مادة خلال الأسابيع الأولى للتعلم، ويكون هذا الانطباع مرتبطًا بشكل مباشر بطريقة المعلم في التواصل والتقديم، فالشرح الواضح، والطاقة الإيجابية، والقدرة على تبسيط المعلومة… كلها عناصر تصنع مادة محبوبة ومفضلة لدى الطالب، بينما الأسلوب الجاف، أو التسرع، أو غياب التفاعل قد يحول المادة إلى مصدر عبء، مهما كانت ممتعة في أصلها.

لذلك، لا يرتبط حب الطالب للمادة بقدراته الشخصية فقط، بل بمدى قدرته على الارتياح للشرح، والشعور بأن المعلم يرى إمكانياته ويفهم طريقته في الفهم، وهنا يبدأ المسار في اتخاذ اتجاهين: إما شغف ينمو، أو نفور يتراكم، إذ تضع دراسة صادرة عن جامعة ستانفورد أثر المعلم في صدارة العوامل التي تحدد ما إذا كان الطالب سيقبل على المادة بشغف، أم سيبتعد عنها بلا رجعة، وتشير الدراسة إلى أن الطالب لا يقع في حب المادة لأنها سهلة، بل لأنه يشعر أن معلمه يفتح له باب الفهم بثقة، ويمنحه مساحة آمنة للتجربة والخطأ، ويقدم المعلومة بروح تستفز الفضول لا الخوف.

الباحثون يصفون هذا التأثير بأنه لحظة التحول، تلك اللحظة التي تتحول فيها المادة من مجرد محتوى دراسي إلى حكاية مفهومة، وفي المقابل، تؤكد الدراسات أن الأسلوب الجاف أو المتوتر قد يغلق الباب أمام الطالب مبكرًا، مهما كانت المادة ممتعة بطبيعتها.

الفارق بين معلم يُدرّس ومعلم يلهم يبدأ من التفاصيل الصغيرة، كنبرة الصوت، طريقة الدخول إلى الدرس، إيقاع الشرح، ولحظة الالتفات لعين الطالب عندما يتردد في سؤال، فالمعلم الذي ينجح في خلق علاقة صحية بين الطالب والمادة عادة ما يجمع بين ثلاث صفات أساسية، أولها تبسيط المعلومة بلا إخلال، أي القدرة على تحويل المفاهيم المعقدة إلى خطوات واضحة، دون أن يفقد المحتوى عمقه، هذه المهارة وحدها كفيلة بتحويل مادة تبدو مستحيلة إلى رحلة ممتعة.

أما الصفة الثانية فهي خلق بيئة آمنة للتعلم، فالطالب لا يتعلم تحت الضغط، لكنه يتعلم عندما يشعر أنه يملك مساحة للخطأ والتجربة، والمدرس الذي يقدم ملاحظاته باحترام، ويحتفل بالمحاولات قبل النتائج، غالبًا ما يغير علاقة الطفل بالدراسة كلها، والصفة الثالثة هي التواصل الإنساني قبل الأكاديمي، فتعامل المدرس مع الطالب بوصفه شخصًا وليس درجة يترك أثرًا مضاعفًا، فتكفي نظرة تشجيع، كلمة طيبة، أو حتى سؤال بسيط عن حاله.. وكلها تفاصيل تصنع انتماء الطالب للمادة قبل أن يصنعها المنهج.

هذه الصفات قد تبدو بسيطة، لكنها حسب التربويين، هي التي تصنع حبًا حقيقيًا للمادة، وتمهد الطريق أمام الطالب ليختار مساره لاحقًا بثقة، ولأن أثر المعلم لا يبقى حبرًا على ورق، تظهر التجربة اليومية داخل البيوت كدليل حي، فكثير من الأمهات يلاحظن التحول الواضح في علاقة أبنائهن بالمواد الدراسية بمجرد تغير طريقة الشرح أو شخصية المعلم، وهذا النمط لا يخصّ الأطفال فقط؛ فكثيرون من الكبار يتذكرون اليوم كيف ابتعدوا عن مجالات علمية بالكامل، ليس لأنهم لم يملكوها، بل لأنهم لم يجدوا المعلم الذي يفتح لهم بابها ببساطة وحلدب، والتجارب الشخصية مهما اختلفت تتقاطع دائمًا عند نقطة واحدة وهي أن المعلم المناسب يستطيع أن يعيد تشكيل علاقة الطالب بالمادة من جذورها.

قد يتساءل البعض: هل حب الطالب لمادة معينة أو نفوره منها مرتبط بالجينات والوراثة؟ الحقيقة أن البحوث العلمية تشير إلى أن الوراثة تلعب دورًا محدودًا جدًا في تحديد ميول الطالب الأكاديمية، فالميول الطبيعية والقدرات الفردية قد تجعل بعض الطلاب يميلون للرياضيات أو الكتابة، لكن هذه الميول لا تحدد المصير الدراسي أو الشغف بالمادة.

وتوضح الدراسات أن العامل الأكثر تأثيرًا هو البيئة التعليمية وطريقة المعلم في التفاعل مع الطالب، بمعنى آخر، يمكن لمعلم ملهم أن يحول طالبًا لم يكن لديه أي ميول طبيعية للعلوم إلى عاشق لها، تمامًا كما يمكن أن يخفق في إيقاظ شغف الطالب حتى لو كانت الموهبة موجودة، وبالتالي، الحب أو الكره للمادة ليس مكتوبًا مسبقًا في الجينات، بل يتم بناؤه يوميًا في الفصل، من خلال أسلوب المدرس، وتواصله، وفهمه لطريقة تعلم كل طالب.

في عالم التعليم اليوم، حيث يزداد الضغط على الطلاب وطرق الحفظ التقليدية تسيطر، يصبح دور المعلم المؤهل من كليات التربية أكثر أهمية من أي وقت مضى. إعداد المعلمين على مهارات التواصل، القدرة على تبسيط المعلومة، وفهم الفروق الفردية بين الطلاب، ليس رفاهية، بل هو استثمار في مستقبل الطالب والمجتمع كله، وإذا أردنا جيلًا يحب التعلم، ويختار مساره بحرية، ويحقق إمكاناته الحقيقية، فعلينا أن نبدأ اولًا من المعلم.. من صانع الشغف.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية