تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > محمود عبد الشكور > "الست" .. ملحمة السقوط والقيام

"الست" .. ملحمة السقوط والقيام

يرى البعض أن الناقد يجب أن يقتصد في استخدام أفعل التفضيل، وهو رأي غريب حقا، لأن المقارنة بين الأعمال السينمائية هي عصب النقد، وخصوصا عندما نكون أمام عمل استثنائي مثل فيلم "الست"، الذي كتبه أحمد مراد وأخرجه مروان حامد، وقامت ببطولته منى زكي،

والاستثناء ليس فقط بمعيار ضخامة الإنتاج ( نحو 8 ملايين دولار)، ولكن أيضا بالمعيار الأهم، وهو تكامل عناصر الفيلم، بحيث يمكن اعتباره أفضل أفلام الموسم فنيا، وبمعيار نضج المعالجة شكلا ومضمونا، بحيث يمكن اعتبار الفيلم بالفعل أفضل أفلام السيرة في السينما المصرية والعربية حتى الآن.

الأفضلية كذلك حتى على مستوى تعاون الثنائي أحمد مراد ومروان حامد إذ أن الفيلم في رأيي هو أفضل أعمالهما، كما أن أداء منى زكي لشخصية أم كلثوم الصعبة، والتي قدمت من قبل في أعمال سابقة أكثرها توفيقا أداء صابرين للشخصية في المسلسل الشهير، هو أفضل وأصعب أدوار منى زكي، الممثلة الموهوبة التي تعرضت لهجوم مكتسح بمجرد نزول تريلر الفيلم، وحتى قبل أن يشاهد الجمهور الفيلم !!

نقاط تفرد فيلم "الست" كثيرة أولها أنه أخذ يحفر عميقا بحثا عن الإنسانة وراء الفنانة، فليس هناك من مزيد يمكن الحديث عنه حول صوتها العبقري، ولكن هناك الكثير الذي يمكن اكتنشافه حول سر نجاحها، وحول لحظات ضعفها، وحول صراعاتها الدخلية بين نجاحها كمطربة، وبين أحلامها كأنثى وكحبيبة وكأم.
وهناك قبل كل ذلك تحوّل الصبية التي ألبسوها ثوب الذكور الى سيدة قوية شخصية، ومن هنا جاء اسم الفيلم "الست"، وهو لقب ثومة الشهير، فكأنها صارت "الست النموذج" لكل الستات، وقد انتزعت مكانتها كامرأة انتزاعا من مجتمع حديث العهد بالاستقلال والاستنارة، أي أن استقلال ثومة تدريجيا تواكب مع استقلال بلدها، وكان الأمران بشق الأنفس، وبعد صراع طويل.

هذه حكاية إذن عن الإنسانة ثومة على أن يكون الغناء خلفية ضرورية، ولكننا لسنا أمام تأريخ غنائي مثلا، وإنما أخذ مراد من غناء الست ما يعين على رسم بورتريه عميق لها كإنسانة من لحم ودم، وبدا السرد حرا في الحركة مكانا وزمانا، ينتقي من أحداث حياة أم كلثوم فقط ما يبرز هذا البورتريه، فتجاوز تلك المشكلة المزمنة في أفلام السير المصرية، عندما يصبح الهاجس هو التجميع والحشد وليس الانتقاء والاختيار وفق "تيمة" معينة، تصلح كمفتاح لفهم الشخصية.

عثر مراد ثانيا على "التيمة" التي سيتحرك على أساسها إنطلاقا من واقعة حدثت فعلا أثناء غناء ثومة على مسرح الأوليمبيا، عندما اقتحم شاب خشبة المسرح، فسقطت الست أرضا، وهي واحدة من أفضل بدايات الأفلام في السنوات الأخيرة، وما حدث بعد ذلك أن الست نهضت وأكملت الغناء.

الفكرة الذكية أن هذا الحدث قد أصبح مجازا بليغا يفسر حياة الست بأكملها، باعتبارها ليست رحلة صعود تقليدية كما تقدم من باب التبسيط، ولكنها رحلة صعود وسقوط، ونجاح الست كما يراه الفيلم ليس في الصعود، وإنما في تلقي الضربة، وتحملها رغم السقوط، ثم النهوض منها.

ولذلك فإن الفيلم يبدأ وينتهي بسقوط وقيام الست على مسرح الأوليمبيا، ثم يعود السيناريو الذكي الى كل مرحلة من حياة الست منذ طفولتها، وحتى حفلة الأوليميبا في نوفمبر من العام 1967، ليختبر ثنائية السقوط والقيام في حياة ثومة.

ومثلما ارتبط استقلال الصبيّة عن والدها وأسرتها باستقلال الوطن، يرتبط نهوض ثومة من خشبة الأوليميبا بمحاولة وطنها النهوض بعد هزيمة 67 المرّوعة، إذ أن رحلة باريس كانت في إطار رحلات الست لجمع الأموال للمجهود الحربي.

هنا معالجة مبتكرة تجعل من النجاح صراعا متصلا مع الذات، ومع الظروف، وفي مواجهة ضربات كثيرة تعرضت لها الست : منذ بهدلتها مع والدها في الأفراح، وصفعها ذات مرة من أحد المخمورين، وصولا الى هجوم صحيفة صفراء عليها، وتهديد والدها بالعودة الى السنبلاوين، وصولا الى رفض الملكة نازلي زواج أم كلثوم من العائلة المالكة، ثم أزمة المرض، والتهميش والعزلة بعد حركة الجيش 1952، وأخيرا كارثة هزيمة بلدها المؤلمة.

ليس صحيحا أن السيناريو عن أم كلثوم الضعيفة، رغم أن الفيلم أبدع في وصف لحظات ضعفها، ولكنه في الحقيقة، وهذا هو الأصعب، عن شخصيتين في شخصية واحدة : واحدة ضعيفة هشة من الداخل تسقط، أو تكون على وشك السقوط والاعتزال والاستسلام، والثانية قوية تنتشلها في كل مرة وتنهض بها وتدفعها الى الأمام، فتعود ثومة من جديد الى القمة.

إنها دراسة نفسية غير مسبوقة للست، تستخدم فيها شخصيات منتقاة، وفترات وأحداث بل وأغنيات بعينها، حتى تكتمل الصورة، بحيث لن ينتهي هذا الصراع بين القوة والضعف إلا بالوفاة.

وثومة هنا تتكون معالم شخصيتها بالتدريج وليس مرة واحدة، وتبدو حائرة بين كونها نجمة تدرك قيمة موهبتها الاستثنائية، وبين طموحها كأنثى تريد زوجا وأبناء.

في فترة ترفض الزواج من رامي حتى لا تقضي على إلهامه الذي صنع مجدها، ولكنها تقبل ما رفضته عندما تخطب الى محمود الشريف، وفجأة تتنبه الى أن مجدها الغنائي أهم، فتترك الشريف.

نراها كإنسانة من لحم ودم، خائفة من لص اقتحم بيتها، وحيدة تكتب خواطرها، ثم تحرق أسطواناتها شاعرة بالخذلان، ونرها أيضا وهو تعاني من آثار مرضها المزعج، وفي كل مرة تقف من جديد بعد السقوط.

يمكن اعتبار الفيلم ثالثا عن المرأة المصرية مجسدة في حكاية ثومة، في انتقالها من الريف الى البندر، ومن التبعية وارتداء زي الذكر، الى ارتداء ملابس امرأة بتأثير ابنة أحد الباشوات، ومن الصفعات التي تتلقاها من أبيها الى الاستقلال وأإدارة حياتها وفرقتها وشؤون قلبها، وصولا الى الحصول على نيشان الكمال، واختيارها بالانتخاب نقيبة للموسيقيين، وتحولها الى رمز للوطن نفسه.

الست ثومة صارت حكايتها عنوانا للست المصرية، من النظرة الدونية، والعورة التي يجب إخفاء معالمها الأنثوية، الى المغنية الأهم، التي علّمت الناس الحب والعاطفة، والتي صارت "مصر عندما تتحدث عن نفسها".

وجدت هذه المعالجة الدرامية الناضجة رابعا معادلها البصري والسمعي الممتاز، كل مراحل حياة الست موجودة، ولكن باختيارات بعينها، وهناك دمح زماني يختزل أحداثا كثيرة في مشهد مكثف، مع مشاهد فوتومونتاج متعددة في موضعها، والآجزاء المقتبسة من الأغاني محدودة وفي مكانها وحسب الموقف بالضبط، مع تلك النغمة الهائمة، وهي استهلال أغنية "ألف ليلة وليلة" البديع في جملة "الليل وسماه"، والتي وظفت باعتبارها صوت عاطفة الأنثى المختبئة وراء النجمة العظيمة قوية الشخصية.

ومن أفضل التصرفات البصرية أيضا رؤية الست لوالدها الراحل أمامها وهي تغني، ثم تصفيقه لها في حفل الأوليمبيا ترجمة لانتصارها الأخير، وتسليم والدها وأستاذها بجدارة ابنته بمكانتها المستقلة.

ومن تلك التصرفات أيضا كتابة اسم وصفة بعض الشخصيات على الشاشة، مما اختزل الكثير من ثرثرة الحوارات والتعريفات التقليدية.

توفيق مروان حامد خامسا كان مدهشا في اختيار الممثلين، وعلى رأسهم منى زكي، التي انتقت لوزام قليلة للغاية من الشخصية، مع ماكياج ضروري يحقق الايهام النسبي،

أما البراعة الحقيقية ففي أمرين هما : استخدام نظرات العينين، واستخدام طبقة صوت غليظة بلكنة فلاحية، واستطاعت منى بعظمة موهبتها أن تنتقل من نظرة الأنثى الى نظرة الزعيمة الصارمة والمريضة المنهكة والسيدة الوحيدة الخائفة من المستقبل، كل ذلك بدقة بالغة، وبأداء قوي ومؤثر للغاية، وربما يكون الفيلم عموما من أكثر أفلام السيرة تأثيرا في مواقفه الإنسانية التي اختيرت بعناية في إطار "التيمة" المحددة.

لم يلتزم مروان بالتشابهات الشكلية كثيرا، ولكنه كان معنيا بالممثل الذي يترك انطباعا قويا عن الشخصية، وكان الأكثر توفيقا سيد رجب في دور والد الست، ومحمد عبده في دور المعلم صدّيق متعهد الحفلات، وكريم عبد العزيز في دور خال الملك ، ومحمد فراج في دور أحمد رامي، ونيللي كريم في دور الملكة نازلي.

سادسا : على مستوى العناصر الفنية، كانت موسيقى هشام نزيه صاخبة أكثر مما ينبغي في المراحل الأولى، ثم صارت عاطفية ومناسبة في مراحل العمر المتقدمة، ورغم براعة مشاهد الفوتومونتاج كلها ( المونتير أحمد حافظ) ، إلا أن القطعات السريعة الكثيرة في مشاهد لقاء نازلي على مائدة الطعام، ولقاء ثومة مع البهوات لأول مرة، لم تكن موفقة على الإطلاق، وأضاعت تعبيرات الوجوه، وكانت إضاءة عبد السلام موسى من أبرز علامات تفوق الفيلم، بخلق أجواء مناسبة لفترات زمنية ومكانية متباينة، وإن كانت الانتقالات بين الأبيض والأسود والألوان غير مبررة أو مفهومة لي في معظم الحالات.

فيلم "الست" عمل كبير يليق حقا بأم كلثوم، فقد أصبح لدينا أخيرا فيلم سيرة عظيم، ولدينا معالجات مبتكرة وذكية.

ثم إن الست منى زكي تقاطعت حكايتها مع الست ثومة، فقد تعرضت منى دوما لهجوم ظالم، ولكنها كانت تعود وتقف لترد على الجميع أمام الكاميرا، مثلما كانت ثومة تقف مرفوعة الهامة لترد أمام الميكروفون.

كان مروان حامد على صواب عندما رأي التحدي داخل منى زكي، لذلك كانت الأجدر بأن تلعب ببراعة دور سيدة الصمود والنهوض.

ولعل المؤسف أخيرا أن نظرة المجتمع الذكوري للمرأة لم تتغير، بل لعلها ساءت أكثر، من أيام الست ثومة، الى أيام الست منى، وهي كارثة أخرى جعلنا الفيلم الاستثنائي نتأملها بكثير من الدهشة والحسرة والأسى.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية