تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > محمود عبد الشكور > “السادة الأفاضل” .. مسخرة الفساد العائلي!

“السادة الأفاضل” .. مسخرة الفساد العائلي!

هذا فيلم مدهش وبارع على أيّ وجه أردت.. أتحدث عن فيلم "السادة الأفاضل"، الذي كتبه مصطفى صقر ومحمد عز الدين وعبد الرحمن جاويش، وأخرجه كريم الشناوي، والذي يمتلك سيناريو محكما للغاية، ويقول أشياء مهمة عن الفساد كأسلوب حياة، وعن حياة الكذب والأقنعة، وعن النفاق والتستر وراء التدين الظاهرى.

يضحكنا الفيلم كثيرا على هذه الخيبة الأخلاقية، مقتربا جدا من مفهوم "المسخرة"، على حد تعبير رأفت الميهي، الذي يتجاوز المفارقة الى العبث القادم من قلب الواقع المصري كله، وليس فقط في قرية "الأفاضل"، مكان أحداث فيلمنا، والذي أعتبره كوميديا العام بدون منازع، وأحد أفضل أفلام الموسم عموما.

الأجمل أن هذا الفيلم الذي أطلق الضحك في صالة العرض كاملة العدد، والذي يبدو من حيث بنائه مثل لعبة مسلية، هو في جوهره هجاء مؤلم يثير التأمل والأسئلة، وأعتقد أن من يشاهد ويفكر لابد يسأل نفسه : كيف ومتى وأين ولماذا ترعرع في وادينا الطيب كل هؤلاء "السادة الأفاضل"؟!! وكيف امتلكوا كل هذه الجرأة وتلك الصفاقة وذلك التصالح مع أنفسهم وأفعالهم على هذا النحو المخيف؟

تبدأ السخرية اللامعة والمؤلمة من العنوان "السادة الأفاضل"، الذي يذكرنا بعنوان فيلم آخر شهير هو "السادة المرتشون"، وإن كانت معالجة الأخير غير كوميدية، ثم تظهر السخرية من اللقطة الأولى في فيلمنا، عندما تهبط الكاميرا من رسم على السقف، يحاكي لوحة الخلق لمايكل أنجلو، لنصبح أمام لوحة خلق وتواصل الفساد بين الأب الحاج جلال أبو الفضل (بيومي فؤاد)، وأفراد أسرته، وهو استبدال جسور وصادم، وفي مكانه أيضا.
هاهو الأب على سرير الموت، تودعه زوجته (انتصار)، وابنه الأكبر ( محمد ممدوح)، وابنته ( دنيا ماهر)، وحفيده البدين، في انتظار وصول ابنه الثاني (محمد شاهين)، ونحن الآن في ليلة العيد، والأحداث كلها في هذه الليلة، وفي يوم العيد، الذي سيشهد ذروة المهزلة.
ينطلق الصراع اعتمادا حدثين كبيرين يبلوران فوضى الفساد في قرية الأفاضل: الأول هو اكتشافنا أن الحاج جلال تاجر آثار، عثر على مقبرة في أرضه، فبنى عليها مشروعا خيريا، وأصبح يبيع قطع الآثار، ويرتزق منها سرا، والآن تظهر مشكلة مع أخيه (أشرف عبد الباقي )، الذي يتهم الحاج جلال بأكل نصيبه من بيع مسروقات المقبرة، وكذلك ورطة أخرى مع التاجر الشرس سمير إيطاليا ( أحمد السعدني)، الذي يطالب بمومياء دفع فيها مقدم شراء، أو استعادة أمواله.
الحدث الثاني المحوري أبطاله ثلاثة من مهمشي قرية الأفاضل يريدون استغلال ليلة وفاة الحاج جلال في السطو على مكتب البريد المجاور لبيته، والبؤساء الثلاثة، والذين يلعب أدوارهم ببراعة طه دسوقي وعلى صبحي وميشيل ميلاد، يمثلون فئة "الصعاليك الأفاضل" .
وفي إطار الخطين شبكة هائلة من العلاقات والمفاجآت التي جعلت بناء الفيلم مثل عروسة الماتروشكا الروسية، تفتح عروسة فتجد عروسة أصغر، أو مثل صندوق باندورا المليء بالثعابين، والأفكار مع ذلك لا تفلت أبدا من الكذب المتبادل، ولعبة الأقنعة، ومهزلة العائلة التي ضربها الفساد بداية من الأب، وصولا الى ذروة الأحداث، ومفاجآت النهاية، التي تأخذنا الى الفشل والانهيار بكل مستوياته.

يمكن أن تقرأ الحكاية كلها من زاوية فضح صورة الأب الكاذب، الذي اختار طريق التجارة غير المشروعة، لكي يضع أسرته في مستوى اقتصادي أفضل، مستترا وراء مظهره الورع، ومدعيا إدارة محل لبيع الحواوشي، بل وبدت المعالجة عندي مثل محاكاة ساخرة (بارودي) ومعاصرة لعالم الفيلم الأيقونة "العار"، والذي كان عملا تراجيديا هائلا، وإن فطن محمود أبو زيد الى لمسات كوميدية مؤلمة في هذه العلاقات، التي كانت تعبر بوضوح عن سقوط الأب، وسقوط العائلة كلها بالتبعية.

ومن الحاج عبد التواب في فيلم "العار" الى الحاج جلال في فيلم "السادة الأفاضل" يا قلبي لا تحزن: في الفيلمين البداية باكتشاف كارثة ومهزلة سر الأب، وفي الفيلمين فإن الستار الديني ومنطق الكذب وتبادل الأقنعة هو المفتاح والعنوان، وفي الفيلمين تبدو أزمة العائلة والأولاد بسبب تداعيات فساد الأب، وفي الفيلمين يتحمل لأبن الأكبر بالتحديد النصيب الأكبر من مواجهة الفوضى، وفي الفيلمين هناك نهاية تجعل ما أتى به الريح تأخذه الزوابع، وإن كانت نهاية "السادة ألأفاضل" أكثر ذكاء وخيالا .
هذه معالجة جديدة تعيد قراءة مأساة أسرة فيلم "العار"، ولكنها توسّع كثيرا من دائرة الفساد، وتحسم الى حد كبير الجدل الأخلاقي حول مشروعية السقوط الأخلاقي، والتي احتلت جانبا معتبرا من مساجلات فيلم "العار"، لأن معظم شخصيات "السادة الأفاضل"، ربما باستثناء الابن الاصغر المصدوم والسلبي تماما ( محمد شاهين)، "متصالحة مع فسادها" إن جاز التعبير، بل إنها تمارسه بدون تأنيب للضمير، وعبر أطياف وتنويعات طبقية متعددة، ومصدر الصراع هنا هو كيفية الاستفادة من الفساد، وليس التساؤل حول المشروعية أو الحلال والحرام، بل إن شخصية سمير إيطاليا تبدو كما لوكانت "مؤسسة فساد وانحراف" في شخص واحد.
من هذه الزاوية، فإن "السادة الأفاضل" فيلم خطير ومزعج ومخيف، لأنه يتحدث عن تفكك كامل في بناء تقليدي راسخ، وفي قلب القرية المصرية، وليس في المدينة أو العاصمة، هذا البناء هو الأسرة، والأب رأسها وعنوانها، وصعوبة المعالجة في تحويل الحكاية، وهي مأساة كاملة في جوهرها كما شرحت، الى مسخرة كاملة تقترب في النهاية الى حدود العبثية، والى عالم يلامس طريقة رأفت الميهي في مدّ خطوط الفوضى، وانقلاب الأمور، الى نهايتها.

في أحد مشاهد الفيلم، يستنكر محمد ممدوح اعتقاد شقيقه الغافل محمد شاهين أن والدهما كان ينفق عليهما من محل الحواوشي، وبما يذكرنا بمشهد مماثل لنور الشريف في فيلم "العار"، وهو يستنكر توهم أشقائه بأن ما يعيشون فيه من ثراء بسبب تجارة والدهم في العطارة، كل ما في الأمر أن النشاط هنا قد تغيّر وتطوّر، والتنويعات تعددت وتوزعت بين طوفان من الشخصيات التي رسمت ملامحها بشكل دقيق، ووضع لكل منها دور هام في هذه اللوحة الهائلة للسقوط، والتي صارت مثيرة للسخرية من فرط تناقضاتها الأخلاقية، وبسبب عدم شعور معظم أبطالها بأن "العار في فقر النفوس وليس في فقر الفلوس"، وهي الفكرة المحورية في فيلم "العار".
لم يكن ينقص "السادة الأفاضل" في النهاية إلا أن نسمع أغنية "حسرة علينا يا حسرة علينا"، ولكن مشاهد النهاية حققت تقريبا نفس المعنى، بدون هتاف أو صوت عال، ولو تأملت أكثر، فإن الفشل في "العار" القديم و"اللاعار" الجديد جاء من سوء إدارة الفساد، ومن خلل في التفاصيل، وليس من يقظة ضمير أو مراجعة، وأن السقوط وقع فعلا باختيار الإنحراف من الأساس.
لم نتعود هذا الإحكام في الكتابة الكوميدية بالذات، مع ملاحظات قليلة للغاية، مثل عدم حاجة مكتب البريد الى حارس في يوم العيد، من ناحية أخرى، يقدم كريم الشناوي نفسه هنا كمخرج ممتاز للكوميديا، باستثناء مشاهد قليلة جدا طالت بعض الشيء، مثل مشهد الردح المبتادل بين بيومي فؤاد وزوجته انتصار بعد أن اكتشفت زواجه عليها، وقد نظري بشكل خاص توظيف موسيقى مينا سامي بوضع خطوط غير منظورة لتأكيد الإفيه، وفي إعطاء هذا الجو المستتر من الصراع المكتوم، باستخدام دقات الطبول وأصوات الكورال، ولا شك عندي أن كريم الشناوي سيكون على رأس قائمة أفضل مخرجي 2025 بثلاثة أعمال درامية متميزة، ومختلفة تماما عن بعضها البعض، هي بترتيب عرضها :مسلسل "لام شمسية"،وفيلم "ضيّ .. سيرة أهل الضي"، وفيلم "السادة الأفاضل".

ليس مألوفا أيضا أن تكون لدينا هذه الشخصيات الكثيرة، وتلك النجوم في فيلم واحد، وكل واحد يؤدي بشكل جيد، وله دور هام في إطار الحبكة، وإن كان الأكثر تميزا هم : بيومي فؤاد ومحمد ممدوح ومحمد شاهين، والأخير بالذات قدم دورا فريدا لرجل انفصل عن قريته، وخرج من جلده، رغم صدمته في نشاط والده، إلا أنه يبدو عاجزا تماما عن أي تصرف أو رد فعل مؤثر، وهو أيضا طبيب مثل أحد أبناء الحاج عبد التواب في فيلم "العار"، والشخصية ضعيفة وهشّة ومتوترة ورقيقة، وفيها كذلك لمسات كوميدية مدهشة.

ولا أنسى التميز الخاص بل والتألق الكوميدي للثلاثي: طه دسوقي وعلى صبحي وميشيل ميلاد، والدور المفاجأة لأحمد صلاح السعدني، وأدوار مميزة لضيفي الشرف أكرم حسني ومعتز التوني، ولفتت نظري جدا الممثلة الشابة الواعدة دينا دياب التي لعبت دور فتاة الليل في قرية الأفاضل.
السادة المبدعون صنعوا فيلم "ألسادة الأفاضل" ليسخروا من فوضى الأقنعة والأكاذيب، ومن صفاقة وبجاحة الفساد والمفسدين، فاضحك وتسلّى واستمتع، ولكن تذكّر أن هذا السقوط "العائلي"، في قلب "القرية"، في أول أيام "العيد"، هو "العار الجديد"، الذي صار أمرا "عاديا".
وتذكّر أيضا أننا أمام جنازة للأخلاق قبل أن نكون أمام جنازة هزلية للحاج جلال تاجر الآثار.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية