تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > محمود عبد الشكور > "الدشّاش" الذي غيّر مسار محمد سعد

"الدشّاش" الذي غيّر مسار محمد سعد

كتبت كثيرا عن موهبة محمد سعد ، الذى شاهدت بداياته المتألقة والكوميدية، من خلال أحد أدوار مسرحية "المجانين" على مسرح كلية الحقوق بجامعة القاهرة، ثم شاهدت نجاحاته فى تقديم أدوار "الكاراكتر" السينمائية والتليفزيونية، والتى غلب عليها الطابع الكاريكاتيري، ثم سرعان ما استهلكت هذه الأدوار نفسه، واستهلكته، خاصة بعد أن أصبح الاعتماد على حركات سعد، ومهارته الجسدية والحركية، أكثر بكثير من كتابة دراما كوميدية متماسكة، ثم جاء التغيير الأول من خلال المخرج شريف عرفة فى فيلم "الكنز " بجزءيه، عندما قدم محمد سعد فى دور لا علاقة له بالكوميديا، وفى شخصية جافة وجادة، وبها بعض الجوانب العاطفية القليلة، والى حد ما اجتهد سعد كثيرا، واستطاع أن يكون أداؤه فى خدمة شخصية درامية مكتوبة بشكل جيد.

فى فيلمه الأحدث "الدشّاش"، من تأليف جوزيف فوزي، وإخراج سامح عبد العزيز، يقدم محمد سعد مزيجا غريبا، لا يخلو من ملاحظات فى الكتابة، ولكنه يطلق طاقات سعد الى آفاق تغيير أوسع، فلا يمكن أن تقول إن دور بدير الدشاش جاد تماما، إذ تخرج منه إيفيهات كوميدية ضاحكة، ولا يمكن حتى أن تعتبره ميلودراما خالصة، مع ما فيها من مناطق يمكن اعتبارها كذلك، ولكن فيه معنى اللعبة سواء مع المتفرج أو مع الجمهور، وفيه تحوّلات كاملة من النقيض الى النقيض، لعبها سعد بصورة مقنعة، كما أن الحكاية فيها ملامح عالم شخصيات الكوميكس، بقدر ما فيها من لمسات التناقضات الإنسانية الداخلية.

حتى الأداء الحركى والجسدى الحر لسعد فى أدواره الكوميدية، يتحوّل هنا إلى مشاهد أكشن صريحة، مثل أفلام العصابات العادية، والأهم من ذلك أن سعد نجح، مع المخرج وكاتب السيناريو بالتأكيد، فى تقديم تقلّبات كاملة فى "مود" الدراما، وأحيانا فى نفس المشهد الواحد، وهو أمر شديد الصعوبة، ولكنها حدثت فى الفيلم بسلاسة بالغة، عامودها الفقرى موهبة سعد، وحالة من الارتياح، التى جعلته يؤدى بهذا الشكل، صعودا وهبوطا، وتلوينا فى تعبيرات وجهه ولغة جسده، وفى درجة صوته، ونظرات عينيه، وهذا أيضا حال كل ممثلى الفيلم، الذين لعبوا أدوارا جيدة، وفى مسارات محددة.

أرجو ألا يفهم من كلامى أن الفيلم كامل الأوصاف، ولكنه فعلا يشكل نقلة كبيرة فى مسيرة محمد سعد، والذى يستحق الإشادة، لأن المغامرة، أو فلنقل أن المقامرة، ليست سهلة، ولأن هذا المزيج، وما زلت أراه غريبا للغاية، صعب ومعقد، وكان يمكن ألا يأتلف على الإطلاق.

ففى أجزاء من الحكاية نحن أمام ميلودراما المراجعة والتوبة، ثم يتم استغلال ذلك فى خداع الجمهور، والانتقال به الى ألعاب تشبه انتقام الكونت دى مونت كريستو، منقولة إلى عالم العصابات، بينما تذكرنا تفاصيل العقاب المضاد للأوغاد، أو للأهل والأصدقاء الغدارين، برحلة انتقام كريم عبد العزيز بمساعدة الآخرين للانتقام بذكاء فى فيلم "واحد من الناس".

وبينما نظن أن الحكاية قد تركت مسألة التوبة والمراجعة، نعود إلى مشهد النهاية، الذى ينطلق من جديد إلى التوبة والتغيّر الكامل، فلا يتوه المعنى، بل إنه يتسق مع مستوى مراجعة سعد نفسه لمسيرته، ورغبته فى التغيير، وطبعا لا أتحدث عن التوبة عن أدواره السابقة، لأن محمد سعد كوميديان مهم، أضحكنا كثيرا، وقدم لونا متميزا فى الكوميديا الحركية، ولكن الاعتراض فقط على استهلاك هذه القدرات فى أفلام متواضعة الكتابة، والدوران فى حلقة مفرغة.

إلى حد كبير رسمت شخصية بدير الدشاش بشكل جيد، فنحن نراه فى بداية الفيلم كخادم بائس فى مسجد، يلتمس البركة والمشورة من الشيخ فاروق (رشوان توفيق)، ونعود لنرى قصته كطفل صغير، كان يهشم زجاج السيارات بذراعه، ليسرقها بالطبع، ولكن هويته تغيرت، فصار يسمى "الدشاش"، وصار صاحب ملهى، ومتورطا فى المتاجرة بالممنوعات، ونرى ملامح المحيطين به: زوجته لبنى (نسرين طافش) التى تكرهه، وتريد الانفصال عنه، وشقيقته منى (مريم الجندي)، التى ترتبط بشاب يريد خطبتها، وغريمه ومنافسه فهد النواسانى ( باسم سمرة)، ومديرة أعماله ومحاميته قوت (نوليا مصطفى)، وولعة (نسرين أمين)، راقصة الملهى التى تريد الزواج منه، وفتاة فقيرة يعرفها منذ الطفولة تدعى صفاء (زينة)، وللدشاش علاقة قديمة أيضا بطبيب شهير (خالد الصاوي)، سيلعب دورا كبيرا فى تحولاته.

نقطة التحول التى دفعت الدشاش إلى التوبة عندما يعرف أن أيامه معدودة فى الحياة بسبب ورم فى المخ، فى مفارقة ميلودرامية معتادة، ولكنها توظف هنا لإلقاء الضوء على جانب أبيض فى الشخصية، وفى التمهيد لتحول مفاجئ يقلب مسار الأحداث، ليس فقط فى اتجاه الانتقام، وإنما فى اتجاه أعمق وأجمل، وهو اكتشاف هذا الرجل الصارم، الذى يظن أنه يعرف كل شيء، وأنه يدير حياته، بل ويسيطر على حياة الآخرين، اكتشافه أنه ألعوبة، وأنه مخدوع من أقرب المحيطين به، والآن على بدير الدشاش أن يدير معركته بمنطق شديد التعقيد هو الانتقام الممتزج بتوبة وتصفية حساب كاملة مع الماضى كله.

لا أعرف بالضبط كيف اجتمع هذا المزيج العجيب؟ ولكن محمد سعد، وكل الممثلين، وإدارة سامح عبد العزيز، والتلوّن السلس فى الأجواء، والتحولات والمفاجآت، والمشاهد الكاملة المكتوبة بشكل جيد، رغم أنها طويلة نوعا ما، كل ذلك صنع فى النهاية عملا مدهشا، منح سعد وزملاءه فرصة الإجادة.

وأداء سعد بالتحديد، والآخرين كذلك، يقف على حدود المشاعر الإنسانية الواقعية، وعالم العصابات المصطنع كما تقدمه الدراما المألوفة، ولذلك تحدثت عن عالم فيه الكثير من حكايات الكوميكس، فالملهى بتفاصيله، وشخصياته، وحياة رجال العصابات، ومواجهاتهم، قادمة مباشرة من دراما النوع، سواء فى السينما المصرية أو الأمريكية، ولكن العلاقات والمواجهات، ولحظات القوة والضعف، والحب والكراهية، وعلاقة الدشاش بأخته بالذات، وعلاقته بالشيخ فاروق، بدلالات اسمه الواضحة، وشخصية صفاء، التى لعبتها زينة ببراعة، وبخفة ظل، وبحضور فائق، كل ذلك بدا حميميا وواقعيا، وربما مصريا أيضا.

لا علاقة لهذا الرأى بمدى النجاح الجماهيرى للفيلم، وحجم هذا النجاح، لأن "الدشاش" سيظل تجربة فارقة فى مسيرة سعد فى كل الأحوال، وفى جرأته فى المغامرة إلى حدودها القصوى، بل سيظل تجربة مختلفة فى مزيجه الخاص، وفى ملامسة سامح عبد العزيز من جديد لعالم الدراما الإجتماعية على طريقة فيلميه "الفرح" و"كباريه"، وعلى طريقة مسلسله "رمضان كريم"، أقول مجرد ملامسة وليس استعادة كاملة، لأن الشخصيات وتحولاتها، والظرف الاجتماعى والنفسي، يقدم هنا بجرعة إثارة وعنف قادمة من أفلام العصابات، ولكن سامح هنا فى حالة جيدة، تترجمها سيطرته على الإيقاع والأجواء، ونجاح مشاهده الكوميدية والعنيفة على حد سواء.

مازلت أعتقد أن سعد ممثل فريد، وأنه يتمتع بحب الناس، ورغم أن "الدشاش" ليس كامل الأوصاف، وفيه تذبذب فى مفهوم الجميع بن التوبة وغسيل الأموال، وبين الاحتفاظ بالمال غير الشرعى وبالمسجد معا، إلا أنه دليل جديد على حضور موهبة سعد، وعلى جرأته فى المغامرة، وعلى قدرته على تقديم وجوه كثيرة، وليس الوجه الكوميدى فقط.

ومرة أخرى، لم تكن المشكلة عند سعد فى الكوميديا، ولكن فى البحث والتعب والشغل على الفيلم الكوميدي، وأتمنى أن يحقق ذلك فى فيلم كوميدى جديد قادم.

أتمنى فعلا أن يكون تغير حياة بدير الدشاش فى الفيلم عنوانا على تغيّر مسار سعد فى قادم الأفلام، بدقة الاختيار، والعناية بالكتابة، كوميديا وتراجيديا، وربما ميلودراما كذلك.
محمد سعد يقدر ويستطيع ويستحق أيضا.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية