تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

حروب بلا دخان

فى لحظة يتغيَّر فيها العالم بأسرع مما يلتقط الناس أنفاسهم، وتتحرك فيها الأخبار مثل شظايا ضوء مُتكسِّر، يصبح الدفاع عن الحقيقة أصعب من الدفاع عن الأرض لم تعد معركة الوعى مجرد ساحة جانبية أو ترف ثقافى، بل تحوَّلت إلى قلب الصراع السياسى والاجتماعى الذى تخوضه مصر فى مواجهة عالم يُعاد تشكيله عبر شاشات الهواتف قبل أن يُعاد تشكيله على الخرائط وهنا تتقدّم السردية المصرية الجديدة ليس بوصفها رواية تُحكى، بل مشروع دولة يستعيد عقل المجتمع من فوضى المنصات وارتباك الحقائق والتلاعب بالهويات.

وباعتبار معركة الوعى امتدادًا لمعارك ميادين القتال التقليدية بل تسبقها، فلم يقتصر دور القوات المسلحة المصرية على الدفاع عن الحدود، بل امتد لخوض معركة الوعى، وهو ما تابعته خلال حضورى البحث الرئيسى للأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والإستراتيجية بعنوان «استراتيجية مقترحة لتنمية الوعى المجتمعى فى ظل التحديات والتهديدات التى تُواجه الأمن القومى المصرى»، والذى أدارته ونفَّذته كلية الدفاع الوطنى، وذلك فى حضور الفريق أول عبدالمجيد صقر، القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع والإنتاج الحربى، والفريق أحمد خليفة، رئيس أركان حرب القوات المسلحة، ووزراء الشباب والرياضة والتعليم العالى والبحث العلمى والأوقاف والتربية والتعليم والتعليم الفنى، ورئيس الهيئة الوطنية للإعلام وقادة الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة وعدد من القادة.

واستمعت لكلمة اللواء أ ح عاطف عبدالرؤوف محمود، مدير الأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والاستراتيجية، وحديثه عن التحديات المتسارعة التى تُواجهها المنطقة، والتى من شأنها المساس بأمن مصر القومى، مشيرًا إلى إعداد البحث من جانب نُخبة من الخبراء الإستراتيجيين والباحثين بكلية الدفاع الوطنى، وقد قام السادة الحضور من الوزراء، بالإشادة بإدارة ومحتوى ومضمون موضوع البحث وتقديم الرؤية التى تُسهم فى الارتقاء بمستوى الوعى فى ضوء التحديات المرتبطة بالأمن القومى المصرى؛ إيمانًا بأن الوعى الصحيح هو خط الدفاع الأول عن مصر.

قدَّم البحث نتائج تُسهم فى وضع استراتيجيات مدروسة ومتعددة الأبعاد للارتقاء بالمستوى الفكرى وفقًا لأسس وطنية راسخة فى ضوء التهديدات التى قد تؤثر على ركائز الأمن القومى المصرى، وانتهت الفعاليات بكلمة السيد القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع والإنتاج الحربى، حيث استهل سيادته الكلمة بنقل تحيات الرئيس عبدالفتاح السيسى القائد الأعلى للقوات المسلحة، وأثنى سيادته على الدور الذى تقوم به الأكاديمية فى تأهيل الدارسين العسكريين والمدنيين، بما يُمكِّنهم من الوفاء بالمهام والمسئوليات التى يُكلفون بها بكفاءة واقتدار.

هذا التفاعل الكبير مع البحث، يؤكد أن الدولة المصرية يقظة ومُدركة أن الخصومة اليوم ليست دائمًا مع جيوش أو جغرافيا، بل مع سرديات تُصنع فى غرف مغلقة ثم تُنشر كالغبار الناعم؛ لا يُرى لكنه يخنق، خصومة مع منصات قادرة على أن تُربك المزاج العام فى لحظة، وأن تهز ثقة المجتمع بنفسه دون إطلاق طلقة واحدة، فهى حروب بلا دخان.

فلم يعد مُمكنًا أن نُواجه عالمًا بهذه السرعة بوعىٍ تقليدى أو بخطاب دعائى لا يقنع أحدًا، كان لابد من استعادة الوعى الوطنى بوصفه قضية أمن قومى لا يقل شأنًا عن تسليح الجيوش وبناء المؤسسات.

ومع صعود الفضاء الرقمى، لم يعد المواطن يستقى معرفته من مصادر تقليدية متدرجة، بل من سيل متلاحق لا يمنح وقتًا للتفكير ولا مساحة للتأمل، هنا تصبح الشائعة أسرع من البيان، والصورة المفبركة أقوى من الحقيقة، والمحتوى العاطفى أكثر قدرة على الانتشار من المعلومة الرصينة.

ومن قلب هذه الواقع، تحدّث البحث عن أهمية السردية المصرية والتى تسعى لإعادة ترتيب العلاقة بين المواطن ودولته، وبين ما يُقال وما يُراد منه أن يُقال، وبين الرواية الوطنية كما عاشها الناس، والسرديات البديلة التى تُصنع لكسر الثقة وزرع الشك.

الوعى الذى يضع خطوات التنمية فى سياقها الطبيعى، ويكشف كيف تتحوَّل معايير البناء إلى مادة للهجوم حين تفشل محاولات تعطيل مسار الدولة.. الوعى الذى يتعامل مع الشباب باعتبارهم شركاء لا متلقين، فهؤلاء هم الأكثر استهدافًا والأكثر قدرة على تحويل السردية المصرية من خطاب رسمى إلى خطاب مجتمعى حىّ.

وفى مواجهة موجات التشويه المنظمة التى تحترفها جهات تعرف جيدًا أثر ضرب الثقة فى أى بلد، يقدّم البحث السردية المصرية الجديدة ليُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن: علاقة تقوم على المصارحة لا الإخفاء، وعلى الشفافية لا الالتفاف، وعلى تقديم المعلومة بشكل سريع، وقبل أن تنتشر روايتها البديلة، فالمواطن الذى يصله الخبر من دولته مباشرةً، ويعرف سياقه وتفاصيله، يصبح أقل عُرضة للاستقطاب، وأكثر قدرة على الفرز، وأقوى فى مواجهة الضجيج الذى يعلو كلما اقتربت الحقيقة من الظهور.

لكن السردية لا تُكتب فى بيان ولا تُصنع فى غرفة مُغلقة؛ السردية تتشكل بالتراكم، وتترسّخ منذ الصغر حين يجد المواطن نفسه داخلها. حين يرى أنه جزء من حكاية الوطن لا متفرج عليها، وحين يشعر بأن إنجازات بلده لا تُصنع فى عُزلة عنه، بل تمتد إلى حياته اليومية ومعيشته ومستقبله، عندها فقط يُصبح أكثر وعيًا بما يُقال عنه ومن أجله وضده، وأكثر إدراكًا للفرق بين النقد الذى يبنى، والهدم الذى يتخفَّى فى عباءة النقد.

وربما تكون أهم ملامح السردية المصرية الجديدة التى وضعتها كلية الدفاع الوطنى أنها لا تطلب من الناس أن يُصفقوا، بل تطلب منهم أن يُفكروا، تبحث عن عقل مُنفتح، قادر على قراءة المشهد دون خوف ودون انفعال، وهى بذلك لا تُعادى الاختلاف، ولا تخشى الرأى الآخر، لكنها تقف بحزم أمام مَن يُتاجر بالفوضى ويستخدم أدوات العصر لتقويض ثقة المجتمع بنفسه وبمستقبله، وتُواجه مَن يسعى لتضخيم الحدث وتحويله من إطاره الفردى إلى حالة جمعية مجتمعية. 

إن مصر وهى تخوض معركة البناء والتنمية، تدرك أن معركتها الأخرى — وربما الأكبر — هى معركة الوعى. معركة الحفاظ على سردية وطن صمد، ويُعَمَّر، ويُواجه، ويعرف أن الحرب على العقول لا تقل ضراوة عن أى حرب أخرى، ومع إدراك هذا الموقف السياسى، تصبح السردية المصرية الجديدة مشروع دولة يسعى إلى أن يُعيد للمجتمع ثقته بنفسه، وأن يجعل الحقيقة أكثر صلابة من الضجيج، وأن يضمن للوطن أن يبقى حاضرًا فى وعى أبنائه مهما اشتدت العواصف وارتفع صخب الشاشات.

 

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية