تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

هذا ما حدث في ديسمبر 1984

لكن في اللحظة ذاتها، بدأت المعجزة - رأيت عم وجيه - وكان كل كبار المنطقة أعمامي - عم وجيه المسيحي هو من أشرف على صوان عزاء أبي.

وعم فرج، الرجل الذى كنا نراه بخيلًا ونتندر على بخله، يخرج من جيبه أموالًا كثيرة ليدفعها للمقرئين.

وعم سليمان ناظر المدرسة، كان منزله لا يبعد عن منزلنا إلا أمتارًا قليلة. أخبرته أمي أنني لن أتمكن من حضور امتحان الشهادة الابتدائية بسبب ما حدث، فأصر - أو أمر بلهجة حادة - أن أكمل دراستي.

في لحظة حنين، أو لحظة ضعف سمّها كما تشاء، عاد بى الزمن لعقود طويلة. تذكّرتُ والدي الذي رحل عن عالمنا في مثل هذه الأيام قبل أربعين عامًا. كنت طفلًا في نهاية تعليمي الابتدائي، وربما نسيت الكثير من طفولتي، لكني لم أنسَ يومًا ما حدث في ديسمبر من العام 1984.

واعذروني إنني سأتحدث فى شأنٍ خاص، لكن ربما يرى فيه البعض شأنًا عامًا أيضًا.

كنّا — كباقي العائلات المصرية وقتها — نمشي بحب نحو المجهول، نخطو بثبات رغم العثرات، ونحمل أحلامنا دون خوف. لم يكن الحلمُ جريمة، ولا كان تحقيقه خطيئة. كان المستقبل بعيدًا بما يكفى ألا يرهقنا، والماضى قريبًا بما يكفى ليُرشدنا، أما الحاضر فكان مساحة الحياة الوحيدة المتاحة أمامنا.

كان والدي موظفًا بسيطًا فى شركة أظن أنها زالت كما زال والدى. كان ربًّا لأسرة مكوّنة من ستة أولاد، وزوجًا لسيّدة بسيطة تحملت معه ومنه ومنّا الكثير. لم يشكُوا من ظلم، ولم يتحججا بظروف. كانت مهمتهما الأولى والأخيرة من وجهة نظرهما هى تربية الأولاد الستة.

كنا نسكن في منطقة أُنشئت «للغلابة» والمهمشين والمتضررين من حروب مررنا بها؛ نفحة حكومية سُمّيت بالأميرية. مساكن شعبية عادية تتشابه فى طرازها المعماري وتشبه سكانها. تعلمنا جميعًا في مدارس الأميرية الحكومية دون أن ندفع شيئًا يُذكر، ودون أن نشعر أننا أقل من أولئك الذين يفصل بيننا وبينهم كوبري، ويدرسون فى مدارس الأثرياء. لم نحقد عليهم، ولم يكن الحقد موجودًا في قواميس حياتنا أصلًا.

كان والدى يقدّر ظروفه، وللعجب كان يقدّر ظروف من حوله. أذكر أنه كان دائم الشجار مع والدتى لأنه كان يفضّل ركوب التاكسي على أتوبيسات النقل العام. كانت تظن أنه يفعل ذلك نوعًا من التعالى، وكان هو يصرّ أنه لا يريد أن يأخذ مكان شخصٍ ما لا يملك تعريفة ركوب التاكسى، بينما هو يملك أجرتها.

لم تتوقف مشاجراتهما عند هذا الحد، فقد كان والدى حريصًا على الجميع، وله دائمًا وجهة نظر فيما يفعل. في مواسم الفاكهة كان يحمل أقفاصًا ويوزعها على الجيران، وكان يقول دائمًا: «مينفعش الجيران يشوفوا الفاكهة عندنا وهم مش قادرين يجيبوها، وإحنا نقف مكتوفى الأيدى».

توفى والدي متأثرًا بمرض أصابه وهو صغير. كنت طفلًا في آخر المرحلة الابتدائية، وكان شقيقي الكبير إبراهيم يخشى علىّ من الصدمة فأبعدني إلى منزل عائلة زوجته. كنت كما يقولون «آخر العنقود»، الطفل الذى باغت الجميع بعد تسع سنوات عجاف، وجاء إلى الحياة فى لحظة لم تكن فى الحسبان.

كان التسلسل فى المواليد داخل أسرتنا يتتابع وفق آلية محددة؛ كل أخ يكبر الآخر بعامين أو يزيد قليلًا، حتى اكتفت العائلة بالشقيق الذى يكبرنى، حتى أن والدي أسماه «رضا» إعلانًا منه أن هذا هو آخر إنتاج عائلة عدوى، أو كما كان يقول: “كده رضا”.

حاولت أمي فيما بعد إنجاب فتاة بعد شقيقتى الوحيدة رابعة، حتى لا تعيش وحيدة كما كانت تقول، لكن كل المحاولات باءت بالفشل، واجتمع والدى ووالدتى على أن «كده رضا»… إلى أن حدث ما لم يكن في الحسبان، وحملت أمى وولدت بعد تسع سنوات كاملة.

جئت إلى الحياة فى لحظة تاريخية في أكتوبر من العام 1973، نعم كانت ولادتي بعد أيام قليلة من انتصار عظيم… نصرٍ تأخر هو الآخر لسنوات. كان القدر يمنح البلاد انتصارًا، ويمنح أسرتي طفلًا جديدًا في اللحظة ذاتها.

كان والدي يحملني بين يديه أينما ذهب، يلبي رغباتي الصغيرة، ويمنحني ما يستطيع. كانت أمي تخشى أن يفسدني تدليله، أما هو فكان يدرك فى أعماقه أنه لن يعيش طويلًا ليراني رجلًا كما رأى إخوتى. كان يحاول أن يسبق القدر بالعطف والحنان.

ثم جاء ديسمبر 1984… عدت إلى البيت ولم أجده. رحل. كانت الصدمة التى حاول إبراهيم إبعادى عنها أقوى من الاحتمال. توقفت طفولتى، وتعطلت الحياة للحظات بدت كدهر.
لكن فى اللحظة ذاتها، بدأت المعجزة…

رأيت عم وجيه — وكان كل كبار المنطقة أعمامى — عم وجيه المسيحى هو من أشرف على صوان عزاء أبى.

وعم فرج، الرجل الذى كنا نراه بخيلًا ونتندر على بخله، يخرج من جيبه أموالًا كثيرة ليدفعها للمقرئين.

وعم سليمان ناظر المدرسة، كان منزله لا يبعد عن منزلنا إلا أمتارًا قليلة. أخبرته أمي أنني لن أتمكن من حضور امتحان الشهادة الابتدائية بسبب ما حدث، فأصر — أو أمر بلهجة حادة — أن أكمل دراستى. طلب منها أن «توضّب» ملابسي، وأخذني بيده إلى منزله، وأحضر لي عددًا من مدرسىّ ليعوضونى عما فاتني من انقطاع، وفعل ذلك دون أن يتقاضى شيئًا، ولم يتركني أعود إلى منزلى إلا عندما نجحت.

ما حدث في ديسمبر 1984 لم يكن مجرد حدث… كان علامة، درسًا، ندبة جميلة، ذاكرة لا تمحى.

كانت الأيام مختلفة، والناس مختلفة، وكانت العلاقات بين البشر حقيقية… غير مستعارة ولا افتراضية.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية