تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
ريادة مصر.. إرث تاريخي
قبل حوالي عشرين عاما وأثناء تغطيتي لواحدة من فعاليات مهرجان الإذاعة والتليفزيون بمدينة الإنتاج الإعلامي وبينما نحن في انتظار وزير الإعلام لافتتاح الفعالية فوجئت بمذيعة شابة صديقة كانت في بدايات عملها التليفزيوني تستنجد بي بعد أن تم تكليفها بشكل مفاجئ من قطاع الأخبار بالتسجيل مع الوزير بسبب تعذر وصول المذيعة الأساسية لأسباب قهرية " إلحقني بسرعة بكام سؤال للوزير أنا هطلع هوا حالا " فقلت لها على الفور "لا تقلقي فالوزير متحدث لبق وكل ماعليكي أن تبدئي بالكلام عن فعاليات الدورة الجديدة للمهرجان ودورها في تعزيز الريادة المصرية للإعلام العربي وعندما تنتهي من الجملة التي تتضمن كلمة " الريادة" قدمي له الميكروفون وسينطلق هو في الكلام وتوجيه رسائله لمدة كافية لأن تغطي المساحة المطلوبة للنقل على الهواء" وهو ماحدث بالنص وانطلق الوزير في حديثه المفضل عن الريادة التي كان له دور كبير في صناعة جزء مؤثر منها على مدى حوالي ربع قرن.
تذكرت هذه القصة وأنا أتابع بعض فعاليات مهرجان العلمين -الذي يختتم انشطته في التاسع والعشرين من الشهر الجاري - وأنا أعتقد أن هذا الحدث الإعلامي الكبير ليس مجرد فعاليات فنية وسياحية ورياضية متنوعة لكنه رسالة في توقيت مهم ومقصود, وتأكيد على أن الدولة المصرية تملك كل أدوات القوى الناعمة والحفاظ على الريادة الإعلامية والفنية في أي وقت تشاء وبأيسر الطرق لإنها تملك إرثا تاريخيا كبيرا في تشكيل وصياغة العقل والوجدان العربي على مدى عقود من الزمن قبل أن تعرف المنطقة العربية كلها معنى القوى الناعمة الثقافية والفنية, وقبل أن تصنع المنطقة فعالياتها الخاصة التي يعتمد أغلبها على قوة المال في صناعة الحدث وجعله أكثر بريقا وجاذبية لكنه بريق يفتقد العمق والرائحة والمفردات المحلية الغزيرة التي تعطي لأي فعالية فنية أهميتها وتأثيرها على مستوى العالم لأن القاعدة تقول أن الوصول إلى العالمية يبدأ بالإبداع في تقديم المفردات المحلية للآخرين فلا يمكن أن تصبح حدثا عالميا مميزا دون أن تملك إرثا محليا عميقا خاصا بك يميزك عن الآخرين.
ريادة الإعلام المصري أمر واقع وتاريخ لا ينكره منصف على كل المستويات, ريادة تختلط فيها السياسة بالفن بالإعلام بداية من أول جريدة على مستوى العالم العربي (الوقائع المصرية) 1828 والسينما المصرية 1927 (فيلم ليلى), ومرورا بالإذاعة المصرية 1934 ونهاية بالتليفزيون 1960 رغم سبق العراق 1957 ثم لبنان- بمشاركة فرنسية- 1959بإطلاق محطات تليفزيون محلية عكس التليفزيون المصري الذي سمى منذ إنشائه بالتليفزيون (العربي) كدليل على شمولية الهدف والتأثير في المحيط الإقليمي وهو التأثير الذي أثبتته الأيام والليالي التي كانت فيها شبكة صوت العرب هى الصوت الذي يعبر عن شعوب المنطقة من المحيط إلى الخليج, أما على مستوى الإعلام الفضائي فحدث ولا حرج فرغم أن إطلاق قمر "عرب سات" يعود إلى عام 1985 بجهد واتفاق عربي إلا أن قرار بث أول فضائية عربية وهى (الفضائية المصرية الأولى) كان قرارا مصريا يعود لعام 1990 بالاستفادة من التقنيات التي وفرها القمر الصناعي العربي ( عربسات) حيث اعتمدت في بدايتها علي برامج القناة الأولي الأرضية ثم تمت هيكلتها فيما بعد برامجيا وإداريا ضمن منظومة القنوات التي أطلقتها مصر, قبل أن تشهد الفترة من عام 1992 إلى عام 1995 اتخاذ تونس والكويت والسعودية وأبو ظبي ودبي والأردن وعمان والمغرب والجزائر والسودان وسوريا والبحرين قرار إطلاق قنواتها الفضائية.
على أن بداية التسعينيات من القرن الماضي شهدت دخول رأس المال العربي بقوة وهو رأس مال يبدو خاصا في ظاهره- وفي أغلب الظن أنه حكومي في حقيقته- لخلق نوع جماهيري من الإعلام الخاص يتجاوز الطبيعة المحافظة الرسمية لبعض الدول العربية في ذلك الوقت حيث تم إطلاق أول قناة فضائية عربية خاصة من لندن وهي mbc عام 1991 ثم مجموعة قنوات راديو وتليفزيون العرب ART عام 1993 من روما, وهو نفس العام الذي شهد أيضا ظهور شبكة قنوات الأوربت المشفرة من العاصمة الإيطالية أيضا, ليتجلى ذكاء صانع القرار المصري في شقين الأول إطلاق قناة النيل الدولية 1993 ثم اتخاذ القرار التاريخي ببدء مشروع القمر الصناعي المصري "نايل سات" الذي انطلق فعليا في عام 1998 ليشهد منتصف التسعينيات من القرن الماضي بداية بث قنوات النيل المتخصصة "الرياضة والمنوعات والأسرة والطفل والثقافية والمنارة والتعليم العالي والأخبار" إلى جانب الفضائية المصرية الثانية, أما الشق الثاني فكان السماح بإطلاق قنوات فضائية مصرية خاصة بدأت بقناتي دريم والمحور 2001 لتتوالي القنوات الفضائية المصرية الخاصة حتى عام 2011 الذي شهد أكبر انفجار "كمي" في القنوات الفضائية على مستوى العالم العربي وإن ظل التأثير الأكبر للقنوات المصرية بما تملكه من كوادر وخبرات ومادة فنية تمثل الكم الأكبر من مساحة الإنتاج الفني العربي, وحتى مع انطلاق المنصات الرقمية العالمية مثل " نتفيليكس " والعربية مثل " شاهد " التي بدأت تهدد عرش الفضائيات التليفزيونية لم تتخل مصر عن تسجيل حضورها من خلال منصة " ووتش إت " التي اكتسبت قاعدة جماهيرية عربية كبيرة بما تقدمه من مواد ونجوم يجتذبون جمهورا كبيرا في العالم العربي.
على مستوى الفعاليات الفنية ورغم انتشار المهرجانات السينمائية العربية التي تجتذب من خلال قوة المال أكبر النجوم العالميين إلا أن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي يظل هو التظاهرة الأعرق على مستوى العالم العربي منذ عام 1976 بما تملكه مصر من تاريخ سينمائي ضخم يعود إلى حوالي مائة عام, أما على مستوى تجمعات وفعاليات الإذاعة والتليفزيون فإن مهرجان القاهرة للإذاعة والتليفزيون الذي بدأ عام 1993 كملتقى عربي أسسه إبراهيم أبو ذكري رئيس اتحاد المنتجين العرب الحالي قبل أن يتبناه اتحاد الإذاعة والتليفزيون ويحمل اسمه بداية من عام 1995 وتحول اسمه لمهرجان الإعلام العربي عام 2007 وتوقف منذ عام 2010 يظل هو التظاهرة الإعلامية الأكبر والأشهر رغم وجود تجمعات مماثلة أقدم مثل مهرجان الخليج 1980 ومهرجان اتحاد الإذاعات العربية عام 1981.
أعود لمهرجان العلمين الذي أعتقد من وجهة نظري الشخصية أنه امتداد لتاريخ طويل من "تحركات" الإعلام المصري التي يذّكر من خلالها بحضوره الحقيقي والتاريخي بكل سهولة ويسر كلما نمى لدى البعض شعور أنه يمكن السحب من رصيد الحضور الطاغي للحالة المصرية وقوتها الناعمة بفعاليات ضخمة تستمد حضورها من قوة المال الذي لايكفي في كل الأحوال بدون الوجوه والكفاءات والكوادر المصرية..الريادة المصرية حالة وإرث تاريخي لايمكن تجاهله, وحضور دائم ومستمر بلا انقطاع رغم الفعاليات والتجمعات الفنية التي "تشغي" بها المنطقة العربية لكنها تظل دائما مجرد ظل للحالة الحقيقية التي جعلت من النقود حتى الآن وفي كل الدول العربية تحمل مسمى " المصاري" !
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية