تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
عشق الأرض
في خضم احتفالات الشعب المصري بافتتاح المتحف الكبير لم يفوت "أحدهم" الفرصة وكتب تغريدة كاذبة ومضللة- كعادته- ينتقد فيها فرحة المصريين بحضارة صنعها غيرهم من أسلافه- حسب خياله المريض- وهم في الحقيقة مجرد لصوص للتاريخ والحضارة, لكنه تلقى كالعادة مايستحق من الردود المفحمة والملجمة عبر كل وسائل التواصل الاجتماعي من كل فئات المجتمع المصري وهو ماذكرني على الفور بردود الفعل الغاضبة التي صاحبت عرض فيلم "المهاجر" عام 1994 وعبرت عن اعتزاز المصريين بحضارة علمت العالم في كل المجالات ومن أهمها الزراعة التي قامت عليها حضارة يمثل نهر النيل أحد أهم عوامل نشأتها واستمرارها على مر التاريخ, حيث لم يكن ممكنا حينذاك التغافل عن الرسالة السلبية التي تلقاها الجمهور من فكرة أن هناك شعبا آخر هو الذي علم المصريين فنون الزراعة وهى لعبة خاسرة لم يبتلعها المجتمع المصري بكل فئاته, الأمر الذي أدى لرفع الفيلم من دور السينما في ذلك الوقت, صحيح أن هناك أسبابا أخرى تسببت في ذلك منها تجسيد شخصيات دينية لكن موضوع الزراعة كان له نصيب كبير من الجدل الذي أثاره الفيلم وأكد المجتمع المصري من خلاله على اعتزازه بحضارته ونفي أية أكاذيب تتعلق بمشاركة شعوب أخرى في بنائها واستمراريتها.
وفي الحقيقة أن هذه الأفكار والربط بينها دارت وتفاعلت في ذهني عندما تلقيت نسخة "بي دي إف" من كتاب الباحث والمثقف الصعيدي عادل قريش (دليل البادي لاستصلاح الأراضي) حول تجربته الشخصية والعملية في استصلاح مساحة من الأرض الصحراوية في محافظة الوادي الجديد وتحويلها إلى أرض زراعية بامتياز بما يؤكد صدق مقولتي القروية القديمة "في داخل كل منا مزارع صغير", سواء كانت جذوره ريفية عاش طفولته في بيئة زراعية أو كبر وعاش حياته في مدينة لا يمارس الزراعة لكنه يجد متنفساً في رعاية نبتة صغيرة في "البلكونة"، أو في حديقة صغيرة على سطح منزله، أو حتى في شغفه باختيار الثمار "الطازة" من الأسواق, هذا الـمزارع الصغير الذي يرمز إلى اهتمام غريزي بالنبات بدءا من البذرة ووصولاً إلى الثمرة بما يعكس ارتباطا روحيا عميقا بين الإنسان المصري والأرض تأكيدا على حقيقة أن مصر هبة النيل، ولهذا كان ارتباط أهلها بأرضها ارتباطاً أزلياً مقدساً نسج المصريون القدماء من خلاله علاقة فريدة مع الأرض والزراعة، لا باعتبارها مهنة بل هوية متوارثة طبعت أغلب المصريين باللون القمحي وعلمتهم قيمة وأهمية طمي النيل كامتداد طبيعي للحياة التي ارتوت من فيضان النيل لآلاف السنين، طبيعة جعلت من الفلاح المصري ملتصقا بأرضه لايفارقها إلا بحثا عن الرزق وسرعان مايعود ليستثمر هذا الرزق مرة أخرى في نفس الأرض، يحمل في جيناته خبرة الأجداد في تقدير البذرة ورعاية الثمر, ورغم التطور الصناعي الذي شهده المجتمع المصري فإن الزراعة بالنسبة له ظلت مصدر الرزق الأكبر ورمزا قويا للاستقرار والخصوبة، وبما يجعل علاقة المصري بالزراعة قصة وفاء لا تنتهي.
وفي الحقيقة فإن اهتمام مصر كدولة بالاستصلاح الزراعي يعود إلى عصور قديمة لكنه شهد طفرات حقيقية ومشروعات ضخمة بعد ثورة يوليو 1952 مباشرة حيث بدأ الاهتمام الجدي والتخطيط لمشروعات الاستصلاح العملاقة التي تعتمد على مياه النيل، ومن أهمها مشروع مديرية التحرير أحد أهم وأكبر مشروعات الاستصلاح الزراعي في تاريخ مصر, حيث كان يمثل نموذجاً متكاملاً للتنمية الزراعية والعمرانية والاجتماعية, ثم إنشاء السد العالي عام 1960 الذي مكن مصر من تحقيق الأمن المائي والبدء في مشروعات التنمية الأفقية الكبرى وزيادة الرقعة الزراعية بصورة متواصلة، ثم مشروع توشكى 1997 بهدف استصلاح مساحات شاسعة جنوب الصحراء الغربية بالاعتماد على مياه بحيرة ناصر, كما شهدت مصر في عهد الرئيس السيسي عدة مشروعات ضخمة في هذا المجال منها مشروع المليون ونصف المليون فدان 2015 الذي يهدف لاستصلاح مساحات واسعة في الواحات والمناطق الصحراوية, وأخيرا مشروع الدلتا الجديدة الذي يعد أضخم مشروع استصلاح في منطقة الشرق الأوسط ويهدف لإضافة مساحة زراعية كبيرة غرب الدلتا.
نعود للكتاب الذي أعتبره دليلا توضيحيا يفيد المبتدئين في مجال المشروعات الزراعية من خلال تجربة شخصية عملية- وتعليمية في نفس الوقت- في استصلاح الأراضي الصحراوية وإعدادها للزراعة كنموذج مرتب وعملي ومفيد لكل من يحلم بخوض التجربة حتى لو لم يكن مزارعا في الأساس, بادئا بتفصيل الخطوات الأساسية التي تضمن نجاح المشروع واستدامته ويعتمد كل منها على نجاح الخطوة التي تسبقها بداية من مرحلة ما قبل الشراء التي تتضمن البحث عن الأرض المثالية واختيار الموقع المناسب بناء على نوعية التربة وتوافر المياه, كما ينصح بضرورة تقييم القدرة النفسية على العيش بجوار الأرض ومراعاة الظروف الاجتماعية والاقتصادية للقائم بالمشروع, ويقدم نصائحا جادة وعملية حول كيفية التحقق من الأوراق القانونية للأرض قبل شرائها، إجراءات الحصول على التصاريح اللازمة لإنشاء المشروع لضمان عدم الوقوع في أي مشكلات قانونية مستقبلًا.
يؤكد الكاتب على أهمية إعداد الطرق داخل المزرعة, تجهيز أنظمة الري وشبكات الصرف الزراعي الضرورية لتحسين جودة الأرض, ثم مرحلة تحسين التربة من خلال اختبارها وتحسين خصائصها باستخدام الأسمدة العضوية والكيميائية لتصبح صالحة للزراعة تمهيدا لمرحلة العمل الفعلي الذي يبدأ باختيار نوع المحاصيل المناسبة للبيئة الصحراوية وتحديد أساليب الزراعة الملائمة للمنطقة وغيرها, كما يقدم الكاتب نصائحا عملية حول كيفية دمج تربية الحيوانات مثل الأغنام والماشية والدواجن مع الزراعة لتحسين العائد المالي, ثم يستعرض الكاتب أبرز التحديات التي قد تواجه المستثمرين في الأراضي الصحراوية، مثل ندرة المياه وكيفية التعامل معها وطرق تحسين كفاءة الري ثم تأثير الظروف الجوية القاسية على الزراعة وكيفية مواجهتها, إصلاح التربة القاحلة لتصبح منتجة, ويقترح حلولًا عملية لهذه التحديات بناءً على خبرته الشخصية في هذا المجال.
يختتم الكاتب دراسته بنصائح وإرشادات مهمة لضمان استمرارية المشروع على المدى الطويل من خلال تطوير الجانب الزراعي ليشمل أنشطة أخرى قد تكون مربحة، مثل إقامة مشروعات زراعية غير تقليدية أو إنشاء مزارع بيئية, مؤكدا أن النجاح في الزراعة الصحراوية يعتمد على الجمع بين المعرفة النظرية والخبرة العملية، وأن التعلُّم من الأخطاء وتجنُّبها هو مفتاح النجاح.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية