تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

أنا وماجدة الرومي


 في أوائل التسعينيات من القرن الماضي كنت في السنة الثالثة من كلية التجارة جامعة سوهاج وسافرت للعمل أثناء الإجازة الصيفية في العاصمة الأردنية عمان في أول رحلة لي خارج مصر, واستطعت في اليوم الثالث وبسرعة شديدة إيجاد فرصة عمل في مزرعة زيتون على أطراف وادي السير- أحد أحياء عمان الشهيرة-, كان عملي يقتصر على ري شجيرات الزيتون الصغيرة في  المزرعة الفقيرة غير المجهزة بخراطيم مياه ولذلك كنت أمر على الشجيرات لأسقيها واحدة تلو أخرى بجردل مياه وعندما يفرغ  أعود لتعبئته من جديد وهكذا, في حين كان صاحب المزرعة يقضي بعض مصالحه بالمدينة، وفجأة طرق أذني صوت ملائكي يغني, نظرت حولي بحثا عن مصدر الصوت فإذا به يأتي من غرفة صغيرة جدا وسط المزرعة يبدو أنها استراحة للرجل وجريت على الفور إلى شباك الحجرة المفتوح لأجد تليفزيونا صغيرا تغني فيه مطربة جميلة ملائكية الصوت والصورة " ماحدا بيعبي مطرحك في قلبي" .. تهت واستغرقتني الأغنية حتى أفقت على كف ثقيل يهوي على كتفي صارخا " يازلمة شو أنا جايبك تشتغل ولا تسمع ماجدة الرومي" ..طردني الرجل من العمل على الفور ولم أعرف حتى الآن هل كان السبب إهمالي في العمل أم سماعي لماجدة الرومي, لكنه للأمانة أعطاني أجري وكان دينارين كاملين..خسرت عملي لكنني عرفت ماجدة الرومي لأول مرة صوتا وصورة. 
في المدينة وكنت أقيم عند أحد أقربائي الذي كان حارسا في برج سكني فخم وإلى جانب ذلك كان يعمل ليلا في محل لبيع شرائط الكاسيت على ما أتذكر كان اسمه "ستار بوكس" يملكه شخصان أحدهما أردني والثاني سوري حكيت له الحكاية فطيب خاطري وفي المساء فوجئت به يحمل لي هدية ثمينة عبارة في حقيبة صغيرة تضم جميع ألبومات ماجدة الرومي قال لي أنها هدية من شريك المحل السوري الذي يعشق أيضا هذه المطربة, وفي أثناء بحثي عن عمل جديد كنت أقضي وقت العصر أمام الغرفة وأنا أستمتع بغناء ماجدة الرومي, كان أحد السكان يجلس في حديقة البرج يشرب شاي الخامسة كما الإنجليز, كان يبدو عليه الوقار والهيبة وفي نفس الوقت.. ناداني وتجاذب معي أطراف الحديث بكل تواضع وتفاعل معي عندما وجدني على وعي بالسياسة وحكى لي كثيرا من الحكايات والدهاليز التي عرفت منها  ومن قريبي أيضا أن الرجل كان وزيرا سابقا وأنهي حديثه بسؤال مفاجئ "شو عجبك في الأردن يا محمد" قلت على الفور ماجدة الرومي قال "لكنها لبنانية وليست أردنية" قلت "لايهم.. وأنا مصري وأحببت صوتها غصبا عن سايكس وبيكو" ضحك الرجل وهو يمضي قائلا والله يا مصاروة ما إلكم حل".
في اليوم التالي تم ترشيحي لدهان سور فيللا رجل أعمال يعمل في الكويت وكان في أجازة, وكعادتنا نحن المصريون فإننا نفهم في كل شئ رغم تحذير المقاول " تفهم في الدهان يازلمة؟ أنا: طبعا يا معلم دا أنا تعلمت على إيد المهندس شرارة" لم يسأل الرجل عن شرارة وتركني وأنا أعتلي سورة الفيللا بجردل دهان وفرشاة ومضي, وبعد مرور حوالي الساعة فوجئت بصاحب الفيللا مرتديا "تريننج سوت" وهو يمارس رياضة الصباح ويبدو أن أراد أن يسلي وقته فتجاذب معي أطراف الحديث في السياسة والثقافة والفن ولم أكن أدري أنه يراقب حركات الفرشاة في يدي حتى قال وهو يضحك "شوف يا محمد انت تفهم في كل إشي إلا الدهان" يقصد دهان السور الذي تركني الرجل أكمله- لا أدري تعاطفا معي كطالب جامعي أم لأنني أفهم في كل شئ حسب تعبيره, وقام بدعوتي لتناول الغذاء معه في الحديقة التي كان سورها شاهدا على فشلي في عملية الدهان وأهداني -هذه المرة حسب طلبي- كاسيت صغيرا ومجموعة شرائط لماجدة الرومي, ولفترة ليست قصيرة من بدايات عملي الصحفي كنت أستخدم ذلك الكاسيت ومازلت أحتفظ به رغم عدم الحاجة إليه.     
بعد عدة أيام التحقت بعمل جديد في مكتبة أمام مدرسة ثانوية في منطقة وادي السير أيضا وتعرفت فيها على طالبة شركسية إسمها "ناتاشا"- والشركس جزء من المجتمع الأردني المتنوع- كانت ناتاشا تأتي لتشتري السجائر "فراطة" يعني بالواحدة ومع تطور الصداقة معها استطعت بما أمتلك من منطق وحوار عقلاني أن أقنعها بالامتناع عن التدخين وامتنانا لي قامت بإهدائي شريط كاسيت لماجدة الرومي!! يضم بالصدفة أول أغنية سمعتها لها وكانت سببا في معرفتي بها وفي نفس الوقت طردي من العمل .. بعدها بعدة أيام جائتني ناتاشا وكانت معها صديقتها أذكر اسمها الغريب "ميسر"- بضم الميم وفتح الياء وتشديدها- تحمل أوراق دعاية لأحد مرشحي مجلس النواب الأردني وكانت إحدى لجان الانتخابات في المدرسة المقابلة للمكتبة, ناتاشا دعتني لانتخاب عم صديقتها, ضحكت وتحججت بإنني سأنتخب المرشح المصري طاهر المصري "وزير خارجية الأردن الأسبق وكان مرشحا في تلك الانتخابات", فأبدت استغرابها " يازلمة بيصير واحد مصري يترشح في مجلس النواب تبعنا " فقلت لها على الفور " وبيصير مصري يصوت في مجلس النواب تبعكم!".. ردت على وهى تنظر لصديقتها وتضع يدها على أوراق الدعاية وعلى وقع صوت ماجدة الرومي في كاسيت المكتبة "ياريت يصير". 
في المساء كالعادة جاء "أبو محمد" صاحب المكتبة ليراجع حساب اليوم- وكان موظفا رفيعا جدا في وزارة مهمة- وبعد انتهاء المراجعة قمت وعلى وقع صوت ماجدة "بترويق" المكتبة استعدادا للإغلاق فاجأني بطلب صادم وغير متوقع " محمد ..شايف السيارة تبعيتي.. مسح زجاجها بالماية وورقة جريدة " فشعرت وكأنما أطلق على رصاصة من مسدسه الذي يحمله دائما في جنبه- نظرا لحساسية وظيفته-, وأسررتها في نفسي قمت على الفور وهو مشغول بمحادثة تليفونية بوضع بعض ورق الجريدة في الماء ثم في التراب ثم مسحت زجاج السيارة ولكم أن تتصوروا النتيجة السيئة بالطبع, عدت بعد انتهاء مهمتي "الشقية" وخرج الرجل ليركب سيارته وهو يطلب مني أن أغلق المكتبة, وفجأة نزل من السيارة وهو يضحك مناديا على بعض الشباب المصريين الذين كانوا يعملون في محل مجاور قائلا " ياجماعة الخير.. مين مختار "يعني عمدة" المصريين في وادي السير"قالوا له في صوت واحد: "كل واحد مختار نفسه" فقال لهم أرشح لكم هالزلمة –وهويشير عليّ- " ضحك الجميع, وطلب مني أن أركب معه السيارة طبعا تسمع ماجدة الرومي وهززت رأسي بالموافقة فقال لي بشكل مفاجيء "ليش عملت هيك في السيارة.. كان ممكن ترفض" قلت له لأنك وجهت لي إهانة فأحببت أن أذكرك بعدم لياقة هذا التصرف, ضحك الرجل وعرض على أن أبقى في الأردن على أن يقوم بتعييني في الوزارة المهمة التي يعمل بها ورفضت طبعا ترك دراستي الجامعية ووعدني بتذاكر درجة أولى في مهرجان جرش لأشاهد ماجدة الرومي الأمر الذي لم يحدث حيث لم تشارك ماجدة في حفلات ذلك العام.
في الفترة الأخيرة  من وجودي في الأردن عملت في أحد المصانع على أطراف عمان في منطقة بيادر وادي السير ولأنني طالب جامعي ولا أتمتع ببنية جسدية قوية اختاروني للعمل في مكتب أصحاب المصنع- البوفيه طبعا- ولحسن الحظ فقد كان الشباب في المكتب من عشاق ماجدة الرومي ولذلك كنت أسمعها طوال فترة وجودي في العمل وأنا أقرأ احيانا في رواية "عرس بغل" للكاتب الجزائري "الطاهر وطار" مالفت نظر شابة جميلة لتسألني عن اسم الرواية الذي أثار عاصفة من النقاش حول معنى الاسم غير المفهوم لهم بسبب فارق اللهجات حتى فاجأتني الشابة بمداعبة طريفة "شو يا زلمة.. مصري وتتصفح جريدة الشرق الأوسط السعودية وتقرأ رواية جزائرية ومغرم بماجدة الرومي اللبنانية إيه جامعة عربية متنقلة هههه" المهم تركت العمل بعد يوم واحد لأسباب دراماتيكية كانت تتعلق بالشاب الذي كان قبلي وترك العمل ثم عاد مرة أخرى لحاجته إليه لأنه رب أسرة وأنا شاب وطالب بدون مسؤؤليات اجتماعية..فوجيء أصحاب العمل بعدم إثارتي لمشكلة وترحيبي بترك عملي لرفيقي الشاب ..تركت العمل محملا بتوصيلة لا أنساها من الشابة الجميلة ومعها شريط كاسيت كان في سيارتها لماجدة الرومي!   
والحقيقة أنا معذور في عدم معرفتي بماجدة الرومي قبل رحلتي الصيفية للأردن فلم أكن شاهدت فيلم "عودة الإبن الضال" الذي شاركت فيه بالتمثيل وغنت فيه أغنيتها الشهيرة "مفترق الطرق" لأنه كان نادر العرض في التلفزيون المصري قبل أن يتاح عرضه في الفضائيات العابرة للحدود, وهو الفيلم الذي كان يرغب فيه المخرج الراحل يوسف شاهين تقديم ماجدة كممثلة بنفس " ستايل " فاتن حمامة لكنها خيبت ظنه فلم تنجح كممثلة وانطلقت كمطربة طبقت شهرتها الآفاق واعتبرها النقاد نجمة لبنان الثانية بعد المطربة الكبيرة فيروز.          
انتهت رحلة الأردن، وعدت إلى سوهاج حاملاً في حقيبتي أشرطة الكاسيت التي أهداها لي الصديق السوري، وحاملاً في ذاكرتي وجوهاً وتفاصيلا لم تكن لتحدث لولا ذلك 'الكف الثقيل' الذي هوى على كتفي في مزرعة الزيتون ..مرت السنوات، وتخرجت من الجامعة، وتغيرت ملامح الحياة، وصار الحصول على أغنية لا يتطلب السفر خارج الحدود أو العمل في المزارع، بل بضغطة زر واحدة, لكنني كلما سمعت صوت ماجدة يصدح بـ 'كلمات' أو 'عم يسألوني'، لا أسمع مجرد موسيقى؛ بل أشم رائحة تراب وادي السير وبيادره وغيرها من أحياء عمان، وأتذكر ملمس 'جردل' الماء في يدي، وأرى ابتسامة ناتاشا وهي تطلب مني أن أصوت لقريب صديقتها.
أدركت حينها أن صاحب المزرعة لم يطردني لأنني سمعت ماجدة الرومي بل لأنني أهملت العمل، لقد خسرت عملي الأول في الغربة نعم، ولكنني كسبت 'هوية موسيقية' ترافقني حتى اليوم، وأثبتت لي الأيام أنني كنت على حق حين قلت للوزير المتقاعد: 'أحببت صوتها رغما عن سايكس وبيكو'.. فالفن الحقيقي هو الوطن الوحيد الذي لا يحتاج إلى تأشيرة دخول."

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية