تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
نوال السعداوي... المرأة التي تحدّت الشيطان
لم تكن نوال السعداوي مجرّد كاتبة أثارت الجدل في زمنها، بل كانت مشروعًا كاملاً لخلخلة المفاهيم، وتفكيك الثوابت، وإشعال معركة بين الفكر والعقيدة.
دخلت الساحة الأدبية والفكرية كمن يقتحم معبدًا مقدّسًا، تحمل قلمًا لا يعرف الحياد، ولسانًا لا يعرف التردّد، وإيمانًا مطلقًا بأن المرأة لن تتحرّر إلا إذا هدمت كل ما تقدّسه المجتمعات من قيم ودين وتقاليد.
كانت تُؤمن أن الثورة على الله هي أول طريق للتحرّر من الرجل!
وهنا يكمن جوهر أزمتها الفكرية التي جعلتها في مواجهة مفتوحة مع النصوص السماوية ذاتها، لا مع المجتمع فحسب.
من يقرأ أعمالها يدرك أن خلف كل عبارة نيرانًا تشتعل ضد الدين في جوهره، وضد الأنثى في حقيقتها، إذ رسمت صورة مشوّهة للمرأة حين اختزلت قضيّتها في الجسد،
وجعلت الحرية مرادفة للتمرّد، والعقل الحر سلاحًا ضد الوحي. وفي حين بدت في كتاباتها وكأنها تدافع عن المقهورات، كانت في الواقع تُسقط عن المرأة تاجها الإلهي الذي رفعها بالحياء والإيمان، لتضع على رأسها خوذة من حديد لا تعرف الرحمة ولا الطهر.
لقد خلطت بين قسوة الواقع الاجتماعي وبين قداسة الدين، فصبّت جام غضبها على النص القرآني ذاته، وكأنّها تنقّم (تنتقم) من السماء لا من الرجال الذين ظلموا النساء.
من هنا تحوّل خطابها من نقدٍ اجتماعي مشروع إلى تمرّد أيديولوجي صريح، جعلها تكتب وكأنها تُصفي حسابًا مع الله لا مع التقاليد. هذا ما رصدته دراسات كثيرة أكّدت أن نوال لم تكن تكتب لتصلح، بل لتقوّض، وأنها لم تكن تبحث عن الحرية بقدر ما كانت تبحث عن ضوءٍ تسلّطه على نفسها لتبدو بطلةً في معركةٍ وهمية.
وفي قراءة دقيقة لخطابها – كما تناولته الرسائل العلمية التي فحصت فكرها – نجد أنها سقطت في فخّ الازدواجية الفكرية؛ فهي تهاجم التفسير الذكوري للنصوص ثم تؤول النصوص نفسها على هواها الأنثوي،
وترفض السلطة الأبوية بينما تُنصّب عقلها سلطة مطلقة على الوجود. تكتب بلغة الثائرة لكنها تفكر بذهنية الكاهنة التي ترى نفسها نبية التنوير في عالم مظلم. فبدلًا من أن تفتح بابًا للفكر، فتحت جرحًا في الضمير الجمعي، وبدلًا من أن تزرع وعيًا، زرعت شتائم ضد المقدّس ووصايا ضد الله ذاته.
كانت نوال السعداوي، كما تصفها بعض الدراسات، صوتًا غاضبًا أكثر من كونها فكرًا ناضجًا. كانت الثورة عندها انفعالًا لا مشروعًا، والانحياز إلى المرأة يعني العداء لكل ما هو ذكوري حتى لو كان في النص الإلهي نفسه. لذلك كانت معركتها خاسرة منذ البداية، لأنها لم تُفرّق بين الإنسان والدين، ولا بين الخطأ البشري والحقيقة الإلهية. فحين وقفت ضد «الختان» و«الحجاب» و«التعدد»، لم تكن تبحث عن إصلاح اجتماعي بقدر ما كانت تهدم فكرة “المرجعية” ذاتها، أي أن يكون هناك مرجع أعلى من الإنسان.
إن أخطر ما في فكر نوال السعداوي ليس آراؤها الصريحة فحسب، بل قدرتها على تغليف الكفر بعبارات الحرية، وإلباس الإلحاد ثوبًا من الحداثة، حتى بدا بعض القراء المبهورين بها وكأنهم يصفّقون لعدوّهم من حيث لا يشعرون. فقد استطاعت أن تُقدّم الفوضى في هيئة وعي، وأن تُقنع البعض أن النجاة في التمرّد، وأنّ السماء عبء يجب التخلّص منه!
ورغم كل ما كُتب عنها من تمجيد أو رفض، تبقى الحقيقة أن نوال السعداوي كانت تعبيرًا عن أزمة فكرية أعمق يعيشها الإنسان المعاصر حين يستبدل الجدل بالإيمان، والفلسفة بالوحي، والروح بالجسد.
فهي لم تكن «عدوّة الرجل» بقدر ما كانت «عدوّة المعنى»، لأنها حوّلت قضية المرأة من بحثٍ عن العدالة إلى معركة ضدّ الله.
لقد ظنّت أنها تُنقذ المرأة، فإذا بها تسلبها إنسانيتها، وتتركها عارية إلا من شعارات الحرية الزائفة. وها هي اليوم، بعد رحيلها، لا تزال تُثير الجدل ذاته، وكأن قلمها لم يُطفأ بعد. لكن التاريخ لا يرحم، والحق لا يُغلب بالضجيج.
فالفكر الذي يبنى على الصدام مع الوحي، لا يخلّف نورًا، بل دخانًا يتلاشى في الهواء.
وتظل سيرة نوال السعداوي تذكيرًا بأن الأفكار تُقاس بعمقها لا بضجيجها، وأن المسيرة مهما طال صداها لا تكتسب قيمتها إلا بما تتركه من حقائق ملموسة، لا من شعارات فارغة.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية