تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > محمد جادالله > حين يتكلم الحجر.. المتحف الكبير وعودة الروح المصرية

حين يتكلم الحجر.. المتحف الكبير وعودة الروح المصرية

عند عتبة الجيزة، حيث تتقاطع ظلال الأهرام مع شمس الحاضر، يقف المتحف المصري الكبير كأنه قلبٌ نابض من زمنين: الماضي الذي لا يغيب، والمستقبل الذي يولد من رحم الذاكرة. هنا، تتبدّى مصر في أبهى صورها، دولةً تعرف كيف تُصغي لحجارتها، وتستعيد من صمتها خطابًا جديدًا للعالم. ليس المتحف الكبير مجرد مبنى عظيم، بل هو مشروع وطني يعلن أن مصر ما زالت تملك الكلمة الأولى حين يتحدث التاريخ عن الخلود.

منذ أن بدأت الفكرة، لم يكن الهدف إنشاء صرحٍ أثري فحسب، بل بعث روحٍ منسية، وإحياء فلسفةٍ ضاربة في عمق الزمن اسمها ماعت – ميزان الكون وعدله ونظامه. فالمتحف في جوهره ليس إلا ترجمةً معاصرةً لتلك الفكرة القديمة التي جعلت المصري يزن حياته بميزان الدقة والجمال. فكما كانت «ماعت» قانون السماء والنهر والإنسان، يأتي المتحف ليكون «ماعت القرن الحادي والعشرين»، يعيد للنظام معناه، وللجمال رسالته، وللحضارة نَفَسها الأخلاقي.

يدخل الزائر إلى المتحف كمن يدخل معبدًا حديثًا للضوء. لا تُعرض القطع الأثرية هنا كجماداتٍ من الماضي، بل ككائناتٍ حيّة تستيقظ على نداء الحاضر. كل تمثالٍ، كل بردية، كل نقشٍ على حجرٍ أو قطعة فخار، تحكي عن مصر التي لم تعرف الموت يومًا.

حتى الهواء في الممرات كأنه مزيجٌ من عبير التاريخ ونبض العصر، يجمع بين رائحة البردي القديمة ولمعة الزجاج المعاصر.

في قلب القاعة الكبرى، ينتصب تمثال رمسيس الثاني كأنه يفتتح من جديد خطاب الدولة العتيقة. ليست ملامحه مجرد أثرٍ محفور في الصخر، بل بيانٌ للخلود: أن تبقى عظيمًا رغم مرور الزمن، وأن تكون حاضرًا رغم غياب العصور.

خلفه تصطف الكنوز في صمتٍ مهيب، لا كرموزٍ للسلطة، بل كشهودٍ على أن مصر لم تكتفِ بصنع التاريخ، بل صنعته بمعنى العدالة والجمال معًا.

لقد أعاد المتحف المصري الكبير تعريف العلاقة بين المصري وتاريخه. لم يعد الأثر وثيقةً جامدة، بل أصبح وسيلةً لفهم الذات، ولإدراك أن الحضارة ليست ماضٍ يُروى بل فعلُ وعيٍ يتجدد. هنا يلتقي الزائر بالفرعون والفلاح والعالم في مساحةٍ واحدة، ليكتشف أن ما يجمعهم ليس المكان فحسب، بل الفكرة: أن النظام والحق والانسجام بين الإنسان والكون هم سرُّ الديمومة، كما علّمتهم «ماعت» منذ آلاف السنين.

ولعل أجمل ما في هذا المشروع أنه يربط بين الجغرافيا والوجدان، بين الحجر والهوية. فالمتحف الذي يقف في حضن الأهرام ليس مصادفةً عمرانية، بل اختيارٌ رمزيٌّ عميق. إنه امتدادٌ لتلك السلسلة التي بدأت من المعابد القديمة إلى مكتبة الإسكندرية، ومن مقابر طيبة إلى قاعات المتحف الحديث. في كل مرة كانت مصر تُعيد ترتيب ذاكرتها، لا لتتغنّى بالماضي، بل لتجعل منه مادةً لصياغة المستقبل.

إن المتحف المصري الكبير لا يخاطب السائح وحده، بل يخاطب وعي الأمة بذاتها.

إنه مرآة تُذكّر المصري بأن جذوره لا تزال تنبض في طمي النيل، وأن رسالته في هذا العالم لم تنتهِ بعد. ففي زمنٍ يتسابق فيه العالم على إنتاج «الصورة»، تأتي مصر لتقدّم «المعنى». فكل حجر هنا يقول إن الحضارة لا تُقاس بطول الأبراج، بل بعمق الفكرة وبقدرة الإنسان على حفظ العدل والجمال في قلب التاريخ.

وحين يغادر الزائر المكان، يشعر أنه خرج من الزمن لا من الباب. فالمتحف لا يُودّع أحدًا؛ إنه يزرع في القلب يقينًا بأن الماضي ما زال حيًّا، وأن مصر لا تتحدث عن الخلود… بل تعيشه.

هذه هي «ماعت» الجديدة، التي لم تعد ريشةً على ميزانٍ في برديةٍ قديمة، بل صرحًا من حجرٍ ونورٍ وصوتٍ للدولة العتيقة وهي تُعلن في وجه العالم: أن من فهم العدل، فهم سرّ البقاء.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية