تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
العلاج بالفلسفة.. حقيقة أم خيال؟
هل يمكن للفلسفة حقًا أن تكون وسيلة لعلاج الإنسان، أم أنها مجرد عناوين أدبية رنانة لا تتجاوز غرض الكتابة؟ كثيرًا ما يفترض الفلاسفة أن العلاج، بالمعنى الشائع أو الحرفي، يتعارض بالضرورة مع التفكير العقلاني، ويظنون أن استخدام الأساليب غير الحوارية يفصل التدخل العلاجي الحرفي عن الخطاب العقلي. غير أن هذا الافتراض ليس دقيقًا.
فحتى بعض العلاجات النفسية النموذجية، مثل "العلاج المعرفي" (بيك، 1995) و"العلاج العقلاني الانفعالي" (إيليس، 1994) المستخدمَين في معالجة الاكتئاب، تنطوي جوهريًا على استخدام الحوار المنطقي وتقييم الأدلة؛ على سبيل المثال: للتحقّق مما إذا كان المريض المكتئب فعلاً عديم الكفاءة كما يعتقد، أو ما إذا كان يُسقِط تفسيرًا متحيزًا على إنجازاته الشخصية.
يمكن أن يتقدّم العلاج من خلال الحوار العقلاني، حيث يتبادل المعالج والمريض النقاش حول الأدلة ذات الصلة ويقومان بتقييمها معًا، بهدف تمكين المريض من التعرّف على الحقائق المهمة واستيعابها، ولا سيما تلك المتعلقة بذاته، كأن يكون تفسيره لمواقف الحياة مشوّهًا بشكل منهجي يضره.
وباختصار، قد يكون الحوار بين المعالج والمريض أحد أشكال الخطاب العقلاني. وما يُكسب هذا الحوار طابعًا علاجيًّا ليس الوسائل المستخدمة فيه (التي يُفترض خطأً أنها غير عقلانية)، بل الغايات المنشودة منه؛ فالأهداف التي يُسعى إلى تحقيقها هي ما يُشكّل جوهر "العلاج" بالمعنى الحرفي للكلمة. والسؤال هنا: كيف يمكن للفلسفة أن تنهض بهذه المهمة العلاجية؟
عزيزي القارئ، إنّ الفلسفة تمثّل السند القوي والساعد الأيمن للإنسان في المجتمع، فهي العون الذي يستند إليه في تحسين أوضاعه الاجتماعية والفكرية والثقافية. وباختصار، تُعد الفلسفة الضابط الأساس للوصول إلى نتائج سليمة وصحيحة على مختلف الأصعدة.
لكن دعونا نتساءل: أين موقع الفلسفة من المشكلات التي تعصف بالمجتمع؟
وأخصّ بالذكر قضايا العنف الأسري، والقتل، والمشكلات الزوجية التي تصل إلى حدّ الطلاق. هذه الظواهر التي باتت منتشرة اليوم في المجتمع المصري، بل وفي المجتمع العربي عمومًا – ولن أتطرق هنا إلى المجتمع الأوروبي، إذ يتميّز مجتمعنا العربي عن نظيره الغربي بوجود وازع ديني وأخلاقي راسخ – انتشرت بصورة مروّعة تهتزّ لها القلوب وتقشعرّ منها الأبدان. والسؤال الآن: هل قدّمت لنا الفلسفة حلولًا جذرية لمثل هذه المشكلات؟ وهل يمكننا، من خلال ممارسة التفكير الفلسفي، أن نحصّن مجتمعنا من هذا الخطر الداهم الذي يهدّد قيمه ومبادئه؟
نبدأ بما حدث في المملكة العربية السعودية من توقفٍ تام للنشاط الفلسفي، سواء في المرحلة الثانوية أو الجامعية. ولسنا هنا بصدد عرض تفاصيل هذا الحدث، بل نركز على السبب الرئيس الكامن وراءه. وقد تبيّن أن هذا السبب يتمثل في القائمين على العملية التعليمية، سواء في مرحلة ما قبل الجامعة أو في المرحلة الجامعية، أي: المدرّس. نحن في أمسّ الحاجة إلى مدرّس يمتلك القدرة على الفهم، والاستنتاج، والتطبيق، والبحث، سواء في التعليم العام أو الجامعي.
إذا اجتمعت هذه الصفات الأربع في قلب العملية التربوية – وهو المعلّم – فإننا سننعم بنتيجة مفادها القدرة على التواصل الفعّال والميسّر مع الطلاب. وذلك ببساطة لأنه يدرّس فرعًا من فروع العلوم الإنسانية بالغة الحساسية والخطورة، فهو علم يتعامل مباشرة مع العقل والفكر.
والسؤال الآن:
ماذا يحدث إذا لم يُحسن القائم على العملية التعليمية والتربوية فهم الفلسفة وتطبيقاتها وممارستها على الوجه المطلوب؟
من المؤكد أننا سنصل إلى ذات النتيجة التي وقعت في المملكة العربية السعودية. ومن ناحية أخرى، فإننا بذلك نمنح أنصاف المثقفين والمفكرين فرصة للتأكيد على تصوراتهم الخاطئة، بأن الفلسفة عديمة الجدوى.
ستظل الفلسفة عرضة لتلك الادّعاءات الفارغة، ما لم نتوقّف عند نقطة جوهرية، وهي القائم على العملية التعليمية والتربوية. فإذا استطعنا الوصول إلى هذا المعلّم، المتسلّح بالدراسات والأبحاث والقراءات المعمّقة، حينها يمكننا أن نُخرج الفلسفة من قاعات الدرس إلى واقع الحياة المُعاش، ونُكلّفه أيضًا بالمهمة العلاجية للفلسفة، وهي الهدف الأساسي والمنشود لهذا الحقل المعرفي.
ما نعنيه هنا بمصطلح "ممارسة الفلسفة" أو "الممارسة الفلسفية"، هو التمييز الجوهري بين الفلسفة ذاتها والخطاب الفلسفي. فالخطاب الفلسفي يتمثل في مباحث الفلسفة الثلاثة: الطبيعة، والأخلاق، والمنطق. أما الفلسفة ذاتها، فهي تعني الطريقة الفلسفية في العيش، أي أن نحيا وفقًا للمنطق، وأن نُجسّد مبادئ الفيزياء (الطبيعة)، ونُمارس الأخلاق في حياتنا اليومية. وهذا هو المقصود الحقيقي بـ"الممارسة الفعلية للفلسفة".
عزيزي القارئ، إن ما نفتقده لممارسة الفلسفة أو التفكير الفلسفي هو الهدوء في اتخاذ القرارات. فهدوء العقل هو الغاية الأساسية من التفكير الفلسفي؛ إذ يُعيننا على التعمق في بواطن الأمور، ويُحسِّن قدرتنا على الاختيار والتمييز فيما يعترضنا من قضايا ومشكلات. ولن نبلغ هذه المرحلة ما لم نستطع السيطرة على أنفسنا وعلى انفعالاتنا، أي إن أحسنا استخدام عقولنا. وباختصار، إن فهمنا الفلسفة ومارسناها كما ينبغي، هو ما يُمكننا من ذلك.
ويمكننا أن نستشعر الدور الحقيقي والعلاجي للفلسفة عبر مراحلها التاريخية المختلفة، ابتداءً من الدور البارز الذي قامت به المدرستان الأبيكورية والرواقية، في سعي كلٍّ منهما إلى إنقاذ الإنسان مما كان يُعانيه من أزمات على مختلف الأصعدة: السياسية، والأخلاقية، والفكرية. وقد شكّل هذا الدور مثالًا واضحًا يمكن الاستناد إليه في هذا السياق.
وأخيرًا، أرى – في تقديري – أننا إذا أردنا أن ننعم بممارسة فعّالة للفلسفة، ممارسةً سليمة وعلمية، وأن نُخرجها حقًا ـ كما نتمنى ـ من قاعات الدرس إلى فضاء الحياة، ونجعلها تؤدي دورها على أرض الواقع، فعلينا أن نُسند هذه المهمة إلى قائدها الأول، وهو المُدرّس.
ولزامًا أن يكون، أولًا وقبل كل شيء، باحثًا في الفلسفة، يمتلك دراساتٍ وأبحاثًا وقراءاتٍ معمّقة تمكّنه من النظر في الأمور بوعيٍ أوسع وأعمق. عندها فقط يمكننا أن نُوكل إليه المهمة العلاجية للفلسفة، وأن نلتمس منه المشورة الفلسفية الصائبة. ووقتها، يحق لنا أن نردد مثلنا الشائع: "خابَ مَن استشار"، وحينئذ يمكننا أن نُجيب على سؤالنا: هل العلاج بالفلسفة حقيقة أم خيال؟
mohamedsayed@art.asu.edu.e
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية