تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
مسابقة دولة التلاوة ..وبناء جيل جديد من القراء المجيدين
تُعدُّ “دولة التلاوة” واحدة من أبرز المبادرات القرآنية التي شهدتها الساحة الدينية والثقافية في الأشهر القليلة الماضية تحت رعاية وزارة الاوقاف والشركة المتحدة ، إذ جاءت استجابةً لحاجة مُلحّة إلى إعادة الاعتبار لفن التلاوة وإحياء روح الاهتمام بالقرآن الكريم، ليس فقط كعبادةٍ وشرف، بل كفنٍّ له قواعده وأصوله ومكانته التي رسّخها أجيال من كبار القرّاء الذين ملأ صيتهم الدنيا. فالمسابقة تمثّل نقلة نوعية في عالم البرامج القرآنية، لأنها لا تبحث فقط عن قارئ جميل الصوت أو متقن للأحكام، بل تبحث عن “دولة” رمزية تتجسد في قارئ يحمل رسالة، ويعيد للمدرسة المصرية والعربية في التلاوة ريادتها التاريخية.
تقوم فكرة المسابقة على جمع أفضل القرّاء من مختلف المحافظات والدول المتنافسة، ليخوضوا مراحل متعددة تُظهر قدراتهم في الأداء الصوتي، وحسن المقامات، وضبط مخارج الحروف، وحضورهم أثناء التلاوة، إضافة إلى قدرة القارئ على إيصال المعنى القرآني بروحانية وتأثير يشد المستمع ويُدخله في عمق النصّ. وهنا تكمن قوة المسابقة؛ فهي لا تعتمد على الصوت وحده، بل على “التجويد الشعوري” الذي يجمع بين العلم والإحساس. فالقارئ الحقيقي لا يقرأ الحروف فقط، بل يقرأ ما وراءها من معانٍ وهدايات.
جاءت مسابقة دولة التلاوة في وقت يشهد فيه العالم الإسلامي تحديات كبيرة من ناحية المحتوى الديني، خاصة مع انتشار الوسائط الرقمية وظهور أصوات كثيرة لا تخضع للتقويم العلمي. لذلك شكّلت المسابقة محاولة جادة لإعادة المعايير المهنية إلى ساحة التلاوة، من خلال لجان تحكيم تضم كبار المتخصصين في المقامات والتجويد، وكبار القرّاء الذين يحملون تاريخًا كبيرًا في الإقراء والإجازات. وهذا أعطى المسابقة مصداقية عالية، وجعلها وجهة للقارئين الجادّين.
كما تساهم المسابقة في تقديم جيل جديد من القرّاء يمتلكون مهارة واضحة في الجمع بين المدرسة التقليدية ومدرسة الأداء المعاصر. فالمتلقي اليوم لم يعد يبحث فقط عن الصوت العذب، بل يريد قارئًا يفهم معاني الآيات، ويُجيد اختيار المقام المناسب، ويتفاعل مع النص بحضور روحي وفني في آنٍ واحد.
من أهم مميزات مسابقة دولة التلاوة أنها أعادت للمشهد أسماء كبار القرّاء الذين رسخوا مدرسة التلاوة المصرية والعربية؛ أمثال الشيخ محمد رفعت، والشيخ الحصري، والمنشاوي، وعبد الباسط، والبنا، وغيرهم. فالمتسابقون غالبًا ما يستلهمون من هؤلاء العمالقة طرائق الأداء، لكن المسابقة تشترط في الوقت نفسه وجود “بصمة خاصة” لكل قارئ، حتى لا يتحول الأداء إلى مجرد تقليد. فهناك فرق بين من يحاكي مدرسة معينة، وبين من يخلق من داخلها أسلوبه الشخصي.
لم تتوقف نتائج المسابقة عند حدود الإبهار الفني أو تنافس القرّاء، بل أثّرت بشكل مباشر في المجتمع، خاصة في فئة الشباب. إذ أقبل آلاف الشباب على حلقات التحفيظ والمقامات الصوتية بعد انتشار المسابقة، وهذا يشير إلى أن الاهتمام بالقرآن يمكن أن يُقدّم بأسلوب معاصر يجذب الأجيال الجديدة دون أن يفقد هيبته أو أصالته.
كما أن حضور الجمهور الكبير في الحلقات النهائية، ومتابعة الملايين للمسابقة عبر الشاشات والمنصات الرقمية، يؤكد أن الأمة ما زالت تحيا بالقرآن، وأن الفن القرآني لا يزال قادرًا على جمع القلوب.
تمتلك مسابقة دولة التلاوة بُعدًا آخر مهمًا، وهو البعد الثقافي والدبلوماسي. فالمشاركون يأتون من مختلف الدول العربية والإسلامية، وبعضهم من دول غير عربية، ما يجعل المسابقة ساحة للتواصل الثقافي والديني. وتبرز هنا ريادة الدولة المنظمة للمسابقة، التي تقدم نفسها كحاضنة لفن التلاوة العالمي، وكمنبر يجمع محبي القرآن تحت مظلة
ورغم النجاح الكبير للمسابقة، إلا أنّ التطوير المستمر ضرورة، مثل توسيع قاعدة التدريب، وإعداد مدارس متخصصة داخل البرنامج لتخريج قرّاء يحملون مشروعًا طويل المدى. كما يُستحسن إدخال عناصر تفسيرية في التقييم، حتى يرتبط الأداء بمعاني الآيات ارتباطًا أعمق، ويصبح القارئ صاحب رسالة علمية وروحية.
إن مسابقة دولة التلاوة ليست مجرد برنامج تنافسي، بل مشروع نهضوي لإحياء فن التلاوة، وبناء جيل جديد من القرّاء الذين يجمعون بين العلم والصوت والإحساس. وهي مبادرة تؤكد أن الأمة التي تتشبث بالقرآن لا يمكن أن تفقد بوصلتها، وأن الجمال الروحي هو أحد أعمدة قوتها الثقافية والحضارية. إنها دولة رمزية، لكن حدودها تمتد إلى كل قلب يأنس بسماع كلام الله، وكل موهبة تبحث عن طريقها لتصبح جزءًا من هذا الإرث العظيم.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية