تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
الميدان أولا.. لنجاح الإدارة المحلية
منذ عقود طويلة والمجتمع يعاني من ظاهرة مزمنة، هي غياب القيادات التنفيذية عن الشارع والميدان، واكتفاؤهم بالجلوس داخل المكاتب الفخمة، حيث تتراكم الملفات والأوراق، وتُرفع إليهم التقارير الروتينية التي غالباً ما تفتقد المصداقية، أو تُجمّل الواقع بما يوافق هوى بعض الموظفين. هذه الظاهرة جعلت الفجوة تتسع بين ما يعيشه المواطن يومياً في الشارع من أزمات، وبين ما يتصوره المسئول التنفيذي من وراء مكتبه. وهنا تبرز أهمية الدعوة إلى ضرورة تفرغ المحافظين ورؤساء الأحياء ونوابهم للميدان، والنزول المستمر إلى أرض الواقع، ليكونوا عيناً راصدة ويداً فاعلة، وليتحقق الردع للمخالفين الذين لا يهابون إلا الرقابة المباشرة.
الجلوس لساعات طويلة داخل أروقة المكاتب لا يمكن أن يُنتج قراراً ناجحاً إذا كان مبنياً على تقارير صورية أو بيانات قديمة. فالواقع يتغير بسرعة، والأزمات المعيشية في المدن والقرى تتطور بشكل لحظي، ولا يمكن إدارتها إلا بالوجود الفعلي للمسئول وسط الناس. من السهل أن يوقع المحافظ على ورق يوصي بإزالة مخالفة، لكن التنفيذ على الأرض قد يتأخر شهوراً، أو يُفرغ من مضمونه بطرق ملتوية، ما لم تكن هناك متابعة لصيقة من القيادة نفسها.
في الميدان فقط يمكن اكتشاف حجم المخالفات الحقيقية: إشغالات الطرق، التعدي على أراضي الدولة، البناء المخالف، الأسواق العشوائية، مافيا المواقف، وانتشار القمامة في بعض الأحياء. هذه الظواهر قد تختفي فجأة إذا تسرب خبر مرور المسئول، لكنها لا يمكن أن تختفي دائماً إذا صار النزول للميدان عادة يومية غير متوقعة. وعندها يدرك الموظف الصغير، ورجل الحي، وحتى المواطن، أن عيون الدولة مفتوحة، وأن الغياب أو التلاعب لن يمر.
فالقوانين وحدها لا تردع دائماً. المخالفون يملكون دهاءً كبيراً في التحايل، ويعرفون ثغرات الروتين، ويتقنون لعبة الرشاوى والوساطات. لكنهم جميعاً يخشون شيئاً واحدا وهو الظهور المفاجئ للمحافظ أو رئيس الحي في موقع المخالفة. مجرد احتمالية وجود المسئول الكبير في الشارع تجعلهم يترددون، لأن العقوبة هنا ستكون مباشرة وحاسمة. الميدان يصنع رهبة لا يوفرها الديوان.
والمواطن المصري بطبعه يحترم المسئول الذي يراه بجواره، ويتحدث معه وجهاً لوجه، لا ذاك الذي لا يعرفه إلا من الصور المعلقة على جدران المكاتب. عندما يجد المواطن المحافظ بين الناس، يسير في الأسواق، يراقب الأسعار، يفتش على الأفران، يقف في طوابير الخدمات، فإنه يشعر أن الدولة حاضرة بالفعل، وأن مشكلاته ليست بعيدة عن صانع القرار. هذه المصداقية ترفع منسوب الثقة العامة، وتقطع الطريق على الشائعات والمبالغات التي يقتات عليها مثيرو الفتن.
وحين يلتزم المسئول الأول بالنزول إلى الميدان، فإنه عملياً يفرض على نوابه ورؤساء الأحياء ومديري الإدارات أن يحذوا حذوه. فالقائد قدوة، وإذا كان القائد ميدانياً، صار الفريق كله ميدانياً. أما إذا استقر المحافظ في مكتبه، فمن الطبيعي أن يكتفي البقية بما هو أقل. وهنا يضعف الجهاز التنفيذي بأكمله، وتزداد المسافة بين القرار والتنفيذ. النزول الميداني إذن ليس مجرد نشاط إضافي، بل هو آلية تربية وانضباط داخل الجهاز الإداري نفسه.
ووجود المسئول في الشارع يفتح الباب للتعامل المباشر مع المواطن دون وسطاء. هنا تتقلص مساحة الروتين، ويختفي سماسرة المصالح الذين يقتاتون على تعقيد الإجراءات. المواطن حين يتحدث مباشرة مع المحافظ أو رئيس الحي، يشعر أن صوته وصل، وأن الشكوى سُجلت في سجل التنفيذ لا في درج النسيان.
المسئول الذي ينزل إلى الشارع بانتظام يعطي رسالة قوية مفادها أن الدولة يقظة، وأن القانون يُطبق. هذه الرسالة ليست فقط موجهة للمخالفين، بل للمواطنين كافة. فالمواطن الذي يرى القانون مطبقاً في الشارع، يزداد التزاماً وانضباطاً، بينما إذا رأى الفوضى مشرعة بلا رقيب، فإنه قد يُصاب بالإحباط وربما بالتقليد السلبي.
صحيح انه لا يمكن إنكار أن بعض المحافظين ورؤساء الأحياء يقومون بجولات ميدانية، لكنها غالباً محدودة أو بروتوكولية، تُعلن مسبقاً في الصحف، فيتهيأ لها الموظفون بطلاء الجدران وتنظيف الشوارع في اللحظة الأخيرة. هذه الجولات لا تكشف الحقيقة، بل تقدم مشهداً مزيفاً. المطلوب هو النزول المفاجئ، غير المعلن، في أوقات مختلفة من الليل والنهار، إلى أماكن متنوعة، من الأسواق الشعبية حتى القرى النائية. هنا فقط ينكشف الواقع بلا رتوش.
إن تفرغ المحافظين ورؤساء الأحياء ونوابهم للميدان وترك الديوان ليس ترفاً إدارياً ولا مطلباً دعائياً، بل هو شرط أساسي لنجاح الإدارة المحلية. فالميدان هو الذي يكشف الحقيقة، وهو الذي يردع المخالف، وهو الذي يبني جسور الثقة مع المواطن، وهو الذي يضمن عدالة توزيع الخدمات. إن دولة القانون لا تُبنى بقرارات على الورق، بل بعيون ساهرة وأقدام تمشي بين الناس. ومن هنا فإن اللحظة الراهنة تفرض إعادة ترتيب أولويات المسئول التنفيذي: الميدان أولاً.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية