تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

وفاق السودانيين وخلافهم

كثيرة تلك الخصال التى يمكن أن تجمع بين أطياف الشعب السودانى، وهى كفيلة أن تسهم بقوة فى تجاوز جزء كبير من أسباب الأزمة التى تعصف ببلدهم منذ نحو ثلاث سنوات، وجعلت ملامح الحرب تنهش فى البلاد، شمالا وجنوبا وغربا، ولن يكون الشرق بمنأى عنها إذا تواصلت حلقاتها الجهنمية إلى ما لا نهاية، وقد يكون الوفاق العام بين السودانيين وسيلة مناسبة لتفكيك بعض من ألغاز الحرب الضارية بين الجيش وقوات الدعم السريع، وأداة لتجاوز الكثير من العقبات السياسية التى تعتقد دوائر خارجية فى صعوبة تجاوزها، وتستثمر فيها دوائرأخرى من أجل تحقيق أهداف خفية.

تحضرنى هنا عبارة بليغة قالها الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر عندما كان مركزه للسلام يشرف على مفاوضات بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة زعيمها الراحل جون قرنق، حيث تعجب كارتر من لقاءات المتفاوضين من الطرفين منذ نحو عقدين، ففى الوقت الذى بلغ فيه الخلاف السياسى مستوى مرتفعا من الحدة والتباعد والخصام، يقابلون بعضهم بعضا بالأعناق والترحيب والحفاوة، وترتسم على وجوههم علامات البشاشة والرضاء.

احتار الرجل وقتها فى تفسير هذه المفارقة، لكن من يعرف السودان وأهله جيدا سيجدها ظاهرة تحمل مدلولات اجتماعية وانسانية ولا تنطوى على مضامين سياسية وعسكرية عميقة، ما جعل تأثيرها يكاد يكون معدوما فى تهدئة الأزمات بالسودان.

ولا يعنى الوفاق الفطرى لدى شريحة كبيرة من السودانيين عدم وجود أزمات سياسية أو هامشية فى العقل الجمعى، بل على العكس، ما أن تخرج البلاد من أزمة إلا لتواجه أزمة أخرى أشد منها، وطوال العقود الماضية وقعت فى السودان مشكلات، قادت إلى اندلاع حروب، أكثرها خطورة على مستقبله الحرب الراهنة بين الجيش والدعم السريع، حيث يصر كل طرف على التخلص من الآخر، وحتى ملاحظة كارتر باتت مختفية، لأن اللقاءات المباشرة بين الطرفين معدومة، والعداء ارتفع بصورة كبيرة، ويصعب معها توقع اقتراب الجلوس على طاولة واحدة قريبا.

ولا تحمل حالة الشد التى يظهر عليها الطرفان فرصة نحو امكانية حدوث جذب سياسى متبادل بينهما، وكل المبادرات الإقليمية والدولية والضغوط الداخلية المتتابعة لم تفلح فى تليين موقف كليهما للالتفاف حول أجندة وطنية واحدة.

تقود هذه النتيجة إلى مفارقة أو ظاهرة خبرتها فى السودانيين منذ فترة طويلة، وهى عدم تقبل الحياد، فغالبية النخب من السياسيين والإعلاميين من المنحازين إلى أحد الأطراف. وفى السودان أيام حكم الرئيس السابق عمر البشير، كان الوصف السائد إما مع النظام أو مع المعارضة، ولا يوجد خيار ثالث، محايد أو مستقل، فكل فرد تم تصنيفه، مع أو ضد، ولا تزال مكونات هذه المعادلة مستمرة، ربما بسبب فائض السياسة فى السودان، الذى جعل عددا كبيرا من المواطنين ينخرطون فيها ويهتمون بما يجرى فى دهاليزها. ووجود تصنيفات جاهزة تظل تلاحق كل المشغولين بالسياسة وهمومها، وبينهم اعلاميون يؤدون عملهم من منطلقات لا تخلو من السياسة.

وقد وضعت الحرب الحالية شريحة كبيرة منهم فى مأزق، حيث أجبر بعضهم على تحديد انحيازه، مع الجيش أم ضده، وفشلت محاولات من أرادوا مسك العصا من منتصفها أو إخفاء ميولهم، ويمكن لفقرة واحدة مكتوبة أو جملة يتفوه بها إعلامى تكون كفيلة بمعرفة انتمائه السياسي. ووجدت فئة من المهتمين بما يجرى فى البلاد من غير السودانيين نفسها فى موقف صعب، حيث أراد بعضهم التمسك بالحياد، لكنهم فشلوا بسبب تفسيرات متعسفة لما يقدمونه من تحليلات، والبحث عن كلمات تسمح بالتصنيف تلقائيا بتأييد هذا الطرف أو ذاك.

أتذكر هنا موقفا طريفا حدث معى منذ سنوات عندما كنت أكتب مقالا عن السودان فى صحيفة خليجية، لها توجهات قومية عربية، وذات مرة التقيت سفير السودان بالقاهرة الراحل أحمد عبدالحليم وأول كلمة نطقها بعد التعارف والسلام «أنت أبوالفضل بتاع المعارضة السودانية»، فضحكت وأوضحت له الأمر أننى لا أنتمى للمعارضة ولا أدافع عن أجندتها، وقلت له يومها إن الصحيفة هى من اختارت كاتبا مصريا لمنع تصنيفها مع الحكومة أو مع المعارضة فى السودان.

مرت أيام، والتقيت رئيس التجمع الوطنى الديمقراطى المعارض الراحل فاروق أبوعيسى فى احدى المناسبات، وعندما عرف اسمى نطق على الفور أيضا «أنت أبوالفضل بتاع الحكومة». الغرض من سرد هذه القصة تأكيد أن غالبية النخبة فى السودان لا تعرف سوى مع أو ضد، ولا تقبل فكرة الحياد ولو من شخص غير سوداني. وعلى الرغم من أهمية هذه المسألة، إلا أنها تضعف فكرة الوفاق التى بدأت بها هذا المقال، ولفتت انتباه جيمى كارتر مبكرا، واعتبرها وسيلة جيدة للحصول على تهدئة محتملة فى أى أزمة تنشب داخل السودان.

أسوأ ما أدت إليه الحرب البغيضة فى السودان حاليا أنها قوضت الميزة السابقة، وضاعفت من حدة الاستقطاب، وأسهمت فى زيادة الخلافات، وأوجدت بيئة مناسبة لنمو الشد داخل صفوف عدد كبير من القوى الوطنية، وربما تنهى ميزة امكانية تقبل الآخر التى كانت سائدة فى السودان، وعمل كثيرون على توسيع نطاقها كباب حقيقى للتعايش بين من ينتمون إلى قوميات وأقاليم مختلفة.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية