تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

عصرالسلام الأمريكى

يتذكر كثيرون من جيلى عندما بدأت تنتشر كاميرات التصوير الحديثة ويتمسك الأطفال بضرورة التقاط صورة خاصة بهم، وتحت الإلحاح والإصرار يطلب أحد الكبار ممن بيده الكاميرا تصويره، ويخبره بأن تكون «أمريكانى»، فى اشارة تدل على تشغيل الاضاءة فقط من دون صورة حقيقية، فيفرح الطفل باللقطة الكاذبة، وبعد فترة ينسى الأمر، ويعلق فى ذاكرته مشهد الفلاش، فقد حقق هدفه الظاهر، وهو الوقوف أمام الضوء الساطع واستجاب من يملك الآلة لرغبته، وأذعن نحو إلحاحه المستمر، بما يؤكد أنه قادر على فرض إرادته، للدرجة التى يتخيل فيها البعض أن الصورة التى التقطت حقيقية، ثم يكتشفون زيفها عندما يسأل الطفل عنها وتأتيه الإجابة أنها احترقت أو أن شدة الضوء لم تجعل لوجهه أثرا.قد يقتنع طفل بهذا التبريرالساذج، وربما يكتشف الخداع سريعا.

 

يترك مشهد التصوير الأمريكانى انطباعا سلبيا لدى كل من الطفل المغرر به لإجباره على الصمت، ومن يقبض على الكاميرا ليتمكن من إتمام مهمته فى هدوء، ويدرك من حولهما أن الخداع صناعة أمريكية، وهذا لا يعنى وجود أمم أخرى لا تجيده، لكن بسبب كثرة ما يظهر من ممارسات عملية بات يرتبط بالشخصية الأمريكية.

وربما يحوى ذلك اختزالا مخلا، أو تحويل انطباعات شخصية إلى مواقف سياسية، وفى الحالتين يصعب نفى وجود حالة سلبية عامة تراكمت ملامحها عبر الزمن تشير إلى أن الإبهار الذى يبدو فى كثير من سياسات الولايات المتحدة والضوء المكثف حول قضية معينة بما يمنحها اهتماما خاصا، لا يعنى الوصول إلى نتيجة إيجابية لكل من انتظروا الحصول على لقطة حقيقية.

يصلح التشبيه السابق لفهم تفاخر الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بأنه نجح فى وقف عدد من الحروب فى دول العالم، حيث تحدث عن ستة أو سبعة صراعات استطاع خلال فترة وجيزة وقف نزيف الدم فيها. وكلها أو بعضها مستمرة، بما يدحض فكرته عن السلام، ويجعله قريبا من التصوير الأمريكانى الذى يلجأ إلى الاستسهال فى توظيف الضوء للإيحاء بأن عملا جادا جرى القيام به، وعندما يتم اكتشاف الخدعة تقدم مبررات واهية، ويتم تحميل أطراف أخرى مسئولية الفشل، بلا اقتراب من عدم اليقين بأن الصورة لم تلتقط كما يجب، ولم تلتزم بالمعايير اللازمة لأعمال تتطلب إتقانا فنيا ورؤية عملية ووضوحا فى الزوايا ليتمكن المصور من أداء مهمته بنجاح.

أمامنا ما يحدث فى قطاع غزة، حيث حصلت واشنطن على صورة أمريكانى، وبعد أكثر من شهرين تسعى لتأكيد أنها ليست مزيفة، وما يضعها فى مأزق عدم قدرتها على مكاشفة الدول، وصعوبة التلاعب بذاكرة الكاميرا وتحويل الفلاش إلى صورة حقيقية. وما لم يتدخل الرئيس ترامب بإعادة صياغة المشهد والتقاط صورة جيدة للسلام فى غزة سوف تسقط ورقة تفاخره المبالغ فيها بأنه نجح فى توفير الأمن والاستقرار بمنطقة الشرق الأوسط. فوقف الحرب تماما فى غزة يؤدى إلى وقفها بالتبعية فى كل من لبنان وسوريا، والعكس قد يكون صحيحا، ويومها يدرك أهمية التخلى عن نهج الفبركة الأمريكانية.

ما حدث فى غزة يحدث فى مناطق أخرى. فلا تزال الحرب مشتعلة فى أوكرانيا، التى اعتبرها ترامب أن وقفها أمر سهل، وأنه اقترب من إقناع رئيسى روسيا وأوكرانيا بالسلام، ورضخ قادة أوروبا لمطالبه التى تنحاز لصالح موسكو. كما أن عودة الاشتباكات بين كمبوديا وتايلاند شاهد على أن الحروب التى يسعى ترامب إلى وضع حد لها تتوقف فى مخيلته، فعودة المعارك تشير إلى أن السلام الهش يشبه التصوير الأمريكانى الذى يرمى لصمت مؤقت يتسق مع قناعات ترامب الفولكلورية أحيانا، وعندما يعود الضجيج تكثر التفسيرات للحفاظ على ماء وجه الرئيس، ولن يعدم من يقدم له تبريرات وضع المسئولية على عاتق من لم يحدقوا جيدا فى الفلاش.

يمثل انهيار اتفاق السلام بين رواندا والكونغو الديمقراطية دليلا جديدا على فشل مشروعات السلام التى تتبناها الإدارة الأمريكية وتصمم فيها على اتباع خطوات كرنفالية، ترضى طموحات ورغبات الرئيس ترامب، وتضر بشعوب أخرى، وتسيء إلى سمعة أكبر دولة فى العالم تزعم أنها تعمل من أجل وقف حروب مشكوك فى توفير دعائم السلام اللازم لها، أو تدعى أنها أوقفت حروبا لا يد لها فيها، فقد كشف رئيس وزراء الهند عدم دقة كلام الرئيس ترامب حول نجاحه فى وقف تصاعد الحرب بين الهند وباكستان.

ما يؤكد أن السلام فى العصر الأمريكى يعتمد على اللقطة، بصرف النظر عن مضمونها، ويحمل ارتدادات سلبية خطيرة على سمعة الولايات المتحدة فى أى مقاربة جديدة لوقف الحروب وتثبيت دعائم الأمن والاستقرار.

يحتاج الوصول إلى السلام فى أى منطقة قدرا من الوضوح والعزيمة والإصرار، والتخلى عن الخداع الكامن فى الصور التى يتم الترويج لها، باعتبارها حقيقية وهى تحمل مضمونا زائفا، تظهر قسماته عند أول محك أو اختبار، ما يفقد الادارة الأمريكية مصداقيتها ويخدش محاولاتها اللاحقة لوقف أى حرب فى العالم.

وتظل الصورة الأمريكانى علامة بارزة فى العقل الجمعى، فليس كل ما تقدمه واشنطن ويلمع ذهبا، فقد يكون ومضة عابرة، تتلاشى بعد أن تؤدى الغرض منها.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية