تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

اليابان المدهشة: روح البوشيدو

فى صباح 6 أغسطس عام 1945 ضربت الولايات المتحدة اليابان بأول قنبلة نووية فى التاريخ (الولد الصغير) استهدفت مدينة هيروشيما، بعد ثلاثة أيام أتبعتها بقنبلة ثانية (الولد البدين) على ناجازاكى، وجهزت أربع قنابل نووية لمحو أهم مدنها من الوجود، لكن اليابان استسلمت 15 أغسطس، لتنتهى الحرب العالمية الثانية؛ خاطب الإمبراطور اليابانى شعبه، قائلا: إننا معرضون للإبادة إذا لم نستسلم، ووعدهم بالعودة والثأر، عندما تكون بلادنا قادرة على ذلك. وبالفعل لم يمض وقت طويل، حتى عادت اليابان وثأرت بطريقة مبتكرة.

 

خرجت اليابان من الحرب مهزومة وأشلاء الضحايا فى كل شبر، تحتلها أمريكا، ولا تملك شيئا من قرارها السياسى، سرحت جيشها وتحطمت آلتها العسكرية المخيفة، تدمرت 70% من بنيتها التحتية، ومات اقتصادها إكلينيكا، لكنها لم تخض حرب تحرير فيتنامية أو جهادا أفغانيا، بل أبهرت الدنيا بقيامتها من الركام، بنى العملاق اليابانى من رماد الهزيمة صرحا شامخا، دار بسرعة مذهلة فى معارج التقدم والرقى، ليصبح ثانى قوة اقتصادية فى العالم، قبل أن تصير الثالثة، إنها ثقافة البوشيدو، روح اليابان السارية عبر الأزمنة.

تعنى كلمة (بو-شي- دو) (طرائق الفارس المحارب)، أى الالتزام الأخلاقى لطبقة المحاربين، قانون غير مكتوب يحكم حياة الفرسان الساموراى وشجاعتهم وشرفهم، يمثل ركنا أساسيا للثقافة اليابانية، ثقافة تستمد جذورها من البوذية والكونفوشية، وركيزتها عقيدة الشنتو التى ترفع الإمبراطور إلى مصاف الآلهة، وتجعل تقديسه فرضاعلى كل يابانى استنادا إلى الأساطير، وتسحب القداسة على اليابان نفسها والتميز على شعبها.صحيح أن الامبراطور هيروهيتو وقع وثيقة الاستسلام على ظهر البارجة الأمريكية ميسورى، فى نهاية الحرب العالمية الثانية، فانتهت أسطورة (ألوهيته)، لكن بلاده استطاعت أن تنهض وتلامس حدود المعجزة، فكانت تجربتها مثلا يحتذى للأمم والشعوب الأخرى.

لم تكن النهضة اليابانية وليدة الظروف التى أعقبت الحربين العالميتين، الأولى والثانية، بل تعود إلى زمن أبكر، عندما أصدر الإمبراطور موتسو هيتوعام 1868م، مرسوما من خمس نقاط لتحديث البلاد ومواجهة التحديات، أهم فقرة فى هذا المرسوم تخص التعليم: «سوف يجرى العمل على جمع المعارف من شتى أنحاء العالم أجمع، وعلى هذا النحو سوف ترسخ الإمبراطورية على أسس متينة».كان هيتو شابا ذكيا متفتحا، وسُمى عهده (الميجى) أى (الحكم المستنير).

اليابان أرخبيل من الجزر، وسط المحيط، فى أقصى شرق آسيا، لا تتجاوز مساحتها 380 ألف كم متر، 85% منها جبال بركانية، تقع فى حزام الزلازل المدمرة، مع غياب شبه كامل للثروات والموارد الطبيعية، اللهم إلا زراعة الأرز على المدرجات الجبلية وصيد السمك، تعرضت اليابان والشرق الأقصى، طوال القرنين التاسع عشر والعشرين، لموجة امبريالية غربية، فيما عرف بدبلوماسية الزوارق الحربية، أجبرتها على الخروج من عزلتها وفتح موانيها للتجارة الدولية والتسليم بتفوق الغرب فى الثروة والقوة، ولما جاء الامبراطور ميجى استجاب للتحدى الغربى، رفع شعار «فوكوكو كيوهيه»، أى دولة غنية وجيش قوى، أسس لنهضة كبرى من خلال الاهتمام الفائق بالتعليم، أرسل البعثات العلمية إلى أمريكا وأوروبا، وحتى مصر زارتها إحدى هذه البعثات - سبقت اليابان فى النهضة - لمعرفة سر صعودها أيام محمد على وسقوطها أيام خلفائه، ارتكزت النهضة اليابانية، على التحديث الاقتصادى خاصة التصنيع الخفيف والثقيل، والتحديث السياسى الذى لا ينفصل عنه، بإنشاء دستور وبرلمان حقيقى، والتحديث العسكرى للدفاع عن خط السيادة، وخط المصالح.الخط الأول هو حدودها، أما الثانى فيمر عبر أراضى جيرانها فى آسيا، باعتباره ضرورة للحفاظ على مصالحها.

أيقنت طوكيو أن مواجهة الأطماع الغربية الند للند، تتطلب بناء قاعدة اقتصادية صلبة، على الطريقة الرأسمالية، وتوفير الموارد لنشر نظام تعليمى راق، وإنشاء مؤسسات الدولة الحديثة وقوتها العسكرية، استطاعت الصناعة اليابانية أن تنافس المنتجات الأوروبية فى السوق المحلية والسوق الخارجية، وتعديل العلاقة غير المتكافئة تقنيا واقتصاديا وعسكريا، أهم ما يميز تلك التجربة النهضوية تغليب النخبة الحاكمة للاعتبارات الاستراتيجية على المصالح النخبوية الضيقة؛ فنجحت اليابان فى امتصاص الصدمات الخارجية، وتوظيفها إيجابيا فى النمو والتقدم، مع الاحتفاظ بشخصيتها القومية، فى تعايش مرن بين الماضى والحاضر، فارتقت من بلد مهمش معزول بلا شأن، إلى قوة بارزة فى نادى الدول الكبرى، قبل أن يطوى القرن التاسع عشر صفحته.

وحتى تحافظ على مسيرتها التحديثية، فى عهد ميجى - وبعده - رأت اليابان ضرورة التوسع الأفقى على حساب جيرانها، للحصول على المواد الخام وفتح الأسواق الخارجية لمنتجاتها، وكانت القوة العسكرية هى المفتاح، انتصر الجيش اليابانى على الصين عام 1895م، وروسيا عام 1905م، ثم كوريا عام 1910م، ثم دخلت اليابان الحرب العالمية الأولى، بعد ذلك توسعت فى الهند الصينية والفلبين والملايو وسنغافورة وبورما وتايلاند. ولكن هذا كله لم يوصل إلا إلى الاستسلام غير المشروط - بديلا للإبادة- نهاية الحرب العالمية الثانية، لذلك اضطرت النخبة اليابانية إلى البحث عن طريق آخر، وتوصلت إلى أن الحل يقع داخل البلاد، لا بالتوسع خارجها باستخدام السلاح، حل يرتبط بالإنسان، بالتوسع الرأسى الدءوب فى بناء عقل إنسان اليابان الجديد، فكان التعليم هو كلمة السر وشفرة المعجزة، أهلا بكم فى كوكب اليابان، وتلك قصة أخرى!.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية