تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

«رفع الحرج» فى حياتنا

يعد «رفع الحرج» مبدأ أساسيا فى الشريعة الإسلامية، يهدف إلى التيسير على الناس، وإزالة ما يؤدى إلى المشقة على كاهلهم، وهو مبدأ يستند إلى أدلة شرعية، تبين أن الله سبحانه وتعالى يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر.

فى هذا السياق، يؤكد العلامة المجدد الشيخ عبدالله بن بيه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء ومنتدى أبوظبى للسلم أن شريعة الإسلام الغراء أولت عناية خاصة للتيسير؛ بوصفه أحد مقاصدها؛ فالإسلام دين الرحمة، ولا رحمة دون تيسير؛ رعاية لطاقات البشر وظروفهم؛ ففى العبادات شرعت الرخص دفعا للحرج؛ أبيح الفطر للمريض والمسافر، والصلاة من قعود عند المرض، والتيمم عند فقد الماء. وفى المعاملات شرعت أنواع المعاملات استثناء من القواعد العامة، فأباح الشارع السلم والاستصناع والإجارات والمزارعة، والطلاق للخلاص من علاقة زوجية لم تعد صالحة للاستمرار. وفى العقوبات شرعت «الدية» فى القتل الخطأ، مثلا.

إن رفع الحرج دليل على رحمة الله، بقصد التيسير، ويشمل إزالة كل ما يعيق تحقيق المصالح المشروعة؛ ما يسهم فى التوازن بين الأحكام الشرعية وتلبية احتياجات الإنسان، وتجنب المشقة الزائدة التى قد تعيق تحقيق هذه المصالح. يطالب العلّامة ابن بيه - فى تقديمه لكتاب «افعل ولا حرج»- الفقهاء بتحرير الفتوى فى مسائل التيسير، أداء شعائر الحج، مثلا، فى ضوء الواقع؛ طبقا لجدلية الدليل الكلى (المقصد)، والدليل الجزئى (النص)، وما فى معناه من ظاهر أو اقتضاء أو مفهوم، حيث يتجلى فقه الفقهاء وفهم العلماء فى مراعاة زوايا هذا المثلث الذى هو (الواقع المستجد) من كل جوانبه، وهو هنا تزايد أعداد الحجاج، وضيق الرقعة الجغرافية، وذهاب الأنفس. وتطبيق الحكم الشرعى الذى ينشأ عن نظرة متوازنة للكلى مع الجزئى، تضع نصب عينيها المقاصد الشرعية، دون أن تغيب عن بصرها وبصيرتها النصوص الجزئية، لما يؤدى إلى إيجاد نسبية لإطراد المقصد وشموله؛ إن ذلك بعينه هو (الوسطية) التى لا يسع المتعاطى للفتوى إلا مراعاتها دون تقصير أو شطط.

إن مقصد التيسير فى الشريعة هو أحد مرتكزات مشروع التجديد الفقهي/ الفكرى عند ابن بيه؛ يقول: «اعلم وفقنا الله وإياك أن التيسير من خصائص هذه الرسالة الخاتمة، فقد قال سبحانه وتعالى: (الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون)... إنها آية كريمة ترسم ملامح رسالة الإسلام، من خلال صفات نبيها، وتعرج على ما يجب له من الحقوق وتبشر أتباعه بالصلاح والفلاح.. ووصفه بأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحل الطيبات ويحرم الخبائث ويضع عنهم الإصر والأغلال، أى التكاليف الغليظة التى كانت تكبّلهم بها شرائع سابقة.

إنه a لحالة الضيق والمشقة التى أماطتها هذه الشريعة بالسماحة واليسر؛ ويزيد ابن بيه الأمر توضيحا، متكئا على قدراته البلاغية والفقهية والفلسفية، بقوله: «إنه تصوير ناطق يُقدم إلى السامع صورة شخص مكبل بأغلال حديدية، وهو يحمل على كاهله حملا ثقيلا ينوء به. فكيف يقوم بوظيفة الاستخلاف؛ إلى أن امتن سبحانه وتعالى عليه برسالة النبى الخاتم عليه الصلاة والسلام؛ فكانت كلمة (يضع) هى المفتاح لفك كبله وإماطة الحمل عن ظهره. فلا غل فى الشريعة ولا إصر فى الحنيفية السمحة. ليس التيسير ورفع الحرج قاعدة فقهية فقط - عبّر عنها الفقهاء بقولهم: المشقة تجلب التيسير. وقول الشافعي: الأمر إذا ضاق اتسع- بل رفع الحرج والتيسير مقصد أعلى من مقاصد الشريعة.

ثم يسوق الأدلة النقلية على هذا الرأى، بآيات من الذكر الحكيم، منها قوله تعالى: «ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون»، و«يريد الله أن يخفف عنكم وخُلق الإنسان ضعيفا»، و«وما جعل عليكم فى الدين من حرج»، و«يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر»، و«لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسا إِلاَّ وُسْعَهَا».. وهى آيات تصب فى نهر التيسير.

ولم يكتف العلامة ابن بيه بذلك إنما استشهد بفقرات لأبى المقاصد أبى إسحاق الشاطبى فى «المسألة السادسة»: «فإن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه... ولو كان قاصدا للمشقة لما كان مريدا لليسر ولا التخفيف، ولكان مريدا للحرج والعسر، وذلك باطل. والثاني: ما ثبت أيضا من مشروعية الرخص... فإن هذا نمط يدل قطعا على مطلق رفع الحرج والمشقّة»، هكذا يشدد ابن بيه على العودة إلى الانطلاق من مقاصد الشريعة، إلى تأويل النص الشرعى، نزولا على حتميات الظروف المستجدة، وعدم الوقوف على ظاهر النصوص أو التقيد بممارسات الأقدمين، حرفيا، مقدما اجتهادا فقهيا جسورا، يلبى الحاجات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والروحية للمجتمعات العربية والإسلامية المتغيرة.

إن رفع الحرج لا يعنى ترك التكليف، أو التهاون فيه بترك بعض الواجبات أو تغيير كيفياتها؛ استجابة لهوى النفس، أو لضغط الواقع، أو لرغبات بعض الناس لنيل مكرماتهم؛ بل إن رفع الحرج يعنى فعل الأوامر كما أمر بها الله تعالى، بلا إفراط ولا تفريط، على الوجه المحدد شرعا، وأحسب أن هذا معنى (الوسطية) التى تحتاجها شعوبنا للتقدم والرقى!.
 

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية