تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
المتحف الكبير.. وفجر الضمير
تزامنا مع الحدث العظيم الذى ينتظره العالم بفارغ الصبر: افتتاح المتحف الكبير وما يعكسه هذا الحدث من دور تنويرى مهم ليس فقط على صعيد جمع وحفظ التراث الإنسانى ولكن أيضا وبصفة خاصة عبر إعلاء هويتنا المصرية القديمة و تأكيد مكانتها بين حضارات العالم ..
لم تبهر الحضارة المصرية القديمة أنظار العالم بمنتجاتها المادية العملاقة في العمارة والنحت فحسب بل أيضا حازت إعجابهم بجانبها المعنوي أو الروحي الذي يتجسد في القيم والأخلاق التي كانت تسود في الحياة الاجتماعية.
نعرض هنا لفكر الحضارة الفرعونية القديمة المنحاز للحياة بكل جوانبها المضيئة.. فكر يقف فى صف الأخلاقيات الحسنة والضمير اليقظ والانشغال الدائم بالبحث عن الجمال.
نصوص بديعة.. مبادئ وأخلاقيات سامية.. كلمات تدخل القلب مباشرة ولا تغادره.. تخاطب الضمير وتهذب النفوس وتدعو إلى اتباع الحق والفضيلة.. هذه المبادئ الرائعة يجدها المرء فى كتاب الموتى أو الرجوع إلى النهار..
ورغم أن الكتاب يضم فى ثناياه نصوصا جنائزية وتعاويذ ودعوات للآلهة وأناشيد وصلوات وتمائم سحرية والتى تعد بمثابة تعليمات إرشادية تمكن المتوفى من تخطى العقبات والمخاطر التى ستصادفه فى أثناء رحلته إلى الحياة الأخرى إلا أنه برأيى على صعيد آخر يحتفى بالحياة بكل مباهجها وتفاصيلها الصغيرة والكبيرة على سواء.
ظاهريا هو كما يقول عنوانه كتاب الموتى لكنه عندى هو كتاب الحياة.. فالمصرى القديم من فرط حبه للحياة.. ومن شدة تمسكه بها.. ومن قوة رغبته فى أن تدوم ولا تنتهى هكذا دون عودة آمن بفكرة البعث.
الروح التى كان أجدادنا القدامى يرسمونها فى صورتين متقاربتين كا ويرمز لها بيدين مرفوعتين إلى السماء، وبا.. يرمز لها بطائر له وجه انسان.. كا تشير إلى الطاقة التي تبث في الجسم كل مظاهر الحياة والحركة، أما با فهي طيف أو صورة نورانية من الانسان لا تختلط بالمادة وهي تتنقل بين عالم الأحياء وعالم الأموات. تعود الروح إلى الموتى ليحصلوا على الخلود ويواصلوا الحياة. ولهذا حرصوا على وضع كل الأشياء الخاصة بالمتوفى فى مقبرته.. طعام وشراب وأدواته الشخصية التى يستخدمها كل يوم.. المجوهرات والحلى وكل تلك المقتنيات الثمينة التى يحبها ويسعد ويفتخر بها.
ألا يعنى هذا السلوك حب المصرى القديم للحياة؟ ألا يترجم معه مدى حرصه عليها ومدى إحساسه بالجزع والحزن لفكرة أن تنتهى حياته ولا تعود مرة ثانية؟
اهتم المصرى القديم بذكر اسم المتوفي.. ربما لتأكيد فكرة أن ذكر الاسم يعيده إلى الذاكرة والحياة.. فلا يطمسه مرور الزمان ولا يتوه فى خضم أحداث الدنيا المتلاحقة.
هذا الحرص يعكس معه دعوة لعدم نسيان التاريخ من ناحية وتأكيد الهوية المصرية من ناحية أخرى.. هذه الهوية التى طالما كانت فخر أجدادنا المصريين.. الإعترافات السلبية التى وردت فى كتاب الموتى تعكس معها معايير أخلاقية عالية كان المصرى القديم يحرص عليها.. هذه الاعترافات كانت جزءا أساسيا من عقيدة الحياة بعد الموت، حيث آمن المصريون القدماء بأن هذه الشهادة ضرورية لعبور الروح بسلام إلى العالم الآخر..
لم أقتل، لم آمر بقتل أحد، لم أشته زوجة جارى، لم أدنس نفسى، لم أكذب، لم أسرق، لم أشهد زورا، لم أملأ قلبى حقداً، لم أكن سبباَ فى دموع إنسان، لم أكن سبباَ فى شقاء حيوان، لم أعذب نباتا بأن نسيت أن أسقيه ماء، أطعمت الجائع ورويت العطشان وكسوت العريان، كنت عينا للأعمى، ويدا للمشلول ورجلاَ للكسيح، لم ألوث ماء النيل، ملأت قلبى بماعت.. الحق والعدل والاستقامة.
الحقيقة أننى كلما قرأت هذه العبارات الرائعة زاد إعجابى بها.. فقوانين ماعت ليست فقط دستورا أخلاقيا واجتماعيا لدى أجدادنا القدماء بل أيضاَ تعكس معها رؤيتهم وقيمهم النبيلة فى الحياة واهتمامهم بكل تفاصيلها الأخلاقية.. هذا الدستور المجتمعى بمختلف مبادئه كان أيضا جواز سفر للمرور بأمان وسلام إلى العالم الآخر ..وهذه الاعترافات التي يحصل بها المتوفي على رضا الآلهة تجعل مفهومهم للدين قريبا مما كان يطلق عليه الفيلسوف كانط دين السيرة الحسنة. لهذا كان العالم جيمس هنري بريستد على حق حينما اعتبر هذه المنظومة الأخلاقية تمثل فجر الضمير في حياة البشر.
الكتاب باللغة المصرية القديمة اسمه الخروج إلى النهار.. والعنوان هنا يعكس نظرة قدماء المصريبن للموت.. فهو عندهم ليس نهاية.. بل هو مجرد عبور إلى حياة أخرى أبدية مليئة بالنور والضوء.. تماما مثل النهار. لم يكن غريباَ إذن أن يستهل المخرج الكبير شادى عبد السلام فيلمه الرائع المومياء بنص من نصوص كتاب الموتى تقول كلماته: لك الخشوع يارب الضياء.. أنت يا من تسكن فى قلب البيت الكبير.. يا أمير الليل والظلام.. جئت إليك روحا طاهرة.. فهب لى فما أتكلم به عندك، وأسرع لى بقلبى يوم أن تتثاقل السحب ويتكاثف الظلام، أعطنى اسمى فى البيت الكبير، وأعد إليّ الذاكرة يوم أن تحصى السنين.
لم يأت هذا الاستهلال مصادفة بالتأكيد، بل جاء ليؤكد استلهام المخرج الكبير للميثولوجيا المصرية القديمة التى تقدر فكرة ترديد اسم الموتى كوسيلة لإعادته للذاكرة من جديد.. التقط الفنان هذه الفكرة ليبث لنا عبر مشاهد سينمائية بديعة عشقه لتاريخ مصر وإنقاذ إرث الحضارة المصرية من النهب والتشويه والضياع التى كثيرا ما يتعرض لها.. فيلم المومياء يرمز لفكرة البعث التى آمن بها القدماء، حيث عادت حضارتهم بعد قرون من الإهمال والنسيان لتنشر أشعة النور ونداءات السلام على البشرية.
وليس إنشاء هذا المتحف الكبير إلا تمثيلا لهذا البعث وتجديدا للنداء بالسمو الأخلاقي.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية