تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > فتحي محمود > تسييس المساعدات الإنسانية

تسييس المساعدات الإنسانية

منذ أن ضرب زلزال مدمر غير مسبوق سوريا وتركيا ومناطق مجاورة لهما منتصف الأسبوع الماضى، وعمليات الإنقاذ وتقديم الدعم والمعونة للضحايا مستمرة بوتيرة متباينة حسب الوضع الجيوسياسى للمناطق المدمرة، وسط اتهامات متبادلة ومتصاعدة بتسييس المساعدات الإنسانية المرسلة لتلك المناطق، فحجم المساعدات المرسلة من الناتو وغيره من دول العالم إلى سوريا محدود جداً، وحتى فى الداخل السورى يعانى الضحايا الخلافات حول سبل إرسال المساعدات إلى المناطق غير الخاضعة للنظام وتلك التى تحت سيطرته، وفى النهاية يدفع السكان جميعا الثمن.

ويذكر الخبراء أن هناك أربعة مبادئ رئيسية تشكل أساس أى عمل إنساني، هى الإنسانية، والحياد، وعدم التحيز، والاستقلالية، وقد طورت هذه المبادئ من القيم الأساسية التى وجهت عمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر وأقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتميز المساعدات الإنسانية عن الأنشطة الأخرى، ذات الطبيعة السياسية، أو الدينية، أو الأيديولوجية، أو العسكرية، لكن الخلافات السياسية خاصة بين القوى الدولية والإقليمية طغت على أساليب العمل الإنسانى وهددت هذه المبادئ، سواء فى مناطق النزاعات المسلحة، أو فى حالة الكوارث الطبيعية. وقد شهدت عمليات الإغاثة الإنسانية للمناطق التى ضربها الزلزال فى سوريا وتركيا محاولات تسييس متنوعة، لدرجة أن الكاتب البريطانى ديفيد هيرست قال إن هذا الزلزال كشف عن الوجه الحقيقى لأوروبا والغرب عموماً، وأثبت للعالم أن الغرب مهتم بالتدمير والحرب أكثر من اهتمامه بالتعمير، مشيرا فى مقال له إلى أن هذا الزلزال المدمر وفّر فرصة للغرب ليظهر للعالم أنه قادر على إعادة البناء مثل قدرته على التدمير، وعلى توفير قيادة أخلاقية وإنسانية لملايين الناس، لكن هذه الفرصة ضاعت بسبب أن الغرب الآن مهتم بالحرب فى أوكرانيا أكثر من أى شيء آخر، وأعرب عن دهشته واستنكاره قيام بريطانيا بتقديم 6 ملايين دولار فقط مساعدات لإغاثة 23 مليون شخص ضربهم الزلزال مقابل 2.3 مليار دولار لأسلحة يتم استخدامها فى حرب أوكرانيا. ورغم أن المناطق المدمرة نتيجة الزلزال فى سوريا تقع فى شمال وشمال غرب البلاد، إلا أن أول قافلة مساعدات من الأمم المتحدة دخلت هذه المناطق بعد أربعة أيام من الزلزال، نتيجة وجود معبر حدودى واحد فقط مفتوح يصل إليها من تركيا هو معبر باب الهوى، وهو ما دعا المبعوث الأممى الخاص غير بيدرسن للدعوة إلى عدم تسييس المساعدات إلى السكان السوريين المتضررين بشدة جراء الزلازل، خاصة بعد تصريحات منظمة "الخوذ البيضاء"، التى تقوم بأعمال الدفاع المدنى فى تلك المناطق التى أعربت عن أسفها لعدم استجابة المجتمع الدولي  لطلب المساعدة الذى قدمته المنظمة منذ الساعات الأولى من الزلزال،  مع استمرار النقص الحاد فى الآلات الرافعة للأنقاض ومعدات البحث والإنقاذ. بل إن بعض المسئولين هناك طرحوا إمكانية استخدام قاعدة الجيش الأمريكى فى شمال شرق سوريا، وتحويلها إلى مركز للمساعدات التى يمكن أن تصل جوا، ونقلها للمناطق المتضررة، وهو أمر لم يتم حتى اليوم، نظرا لوجود عقبات سياسية وديموغرافية تعرقل وصول المساعدات برا لتلك المناطق، خاصة بعد أن قدرت مفوضية الأمم المتحدة للاجئين أن الزلزال المدمر قد يكون شرد نحو 5٫3 مليون شخص فى سوريا، وطالبت الأمم المتحدة بوقف فورى لإطلاق النار هناك لتسهيل إيصال المساعدات إلى المتضررين، فى إحدى أسوأ الكوارث التى حلت بالمنطقة منذ قرن، وسط ضعف الإمكانات وقلة الموارد، وتأخر وصول المساعدات الدولية اللازمة لعمليات البحث والإنقاذ.

جدير بالذكر أن العالم يعانى محاولات تسييس المساعدات الإنسانية منذ عقود، وعلى نطاق أوسع، وسبق أن أكد معهد واشنطن للشرق الأدنى أن المساعدات الإنسانية تعانى التسييس، حيث ينظر إليها العاملون وصنّاع السياسة فى هذا المجال من وجهات نظر مختلفة وأهداف مختلفة، ومن الضرورى الإقرار بهذه الاختلافات، فبالنسبة للعاملين فى المجال الإنساني، يتمثل مبعث القلق الأكبر فى إيصال المساعدات، لكن الحكومات فى الولايات المتحدة ودول أخرى غالباً ما تستخدم المساعدات لتعزيز مصالحها واستراتيجياتها السياسية.

وقد تكررت نفس الاتهامات بتسييس المساعدات الإنسانية خلال أزمات كثيرة فى ميانمار وإثيوبيا وفلسطين واليمن ولبنان، وفنزويلا وهى المثال الأشهر فى هذا السياق عندما أعلن رئيس الجمعية الوطنية خوان جوايدو نفسه رئيسا انتقاليًا فى يناير 2019، واعترفت به الولايات المتحدة، بالإضافة إلى ما يقرب من خمسين دولة، بينما حظى الرئيس نيكولاس مادورو بتأييد كل من روسيا والصين وكوبا والمكسيك وبوليفيا وتركيا وإيران، وكان لهذا الصراع الداخلى والانقسام الدولى انعكاساته الواضحة على الأوضاع الإنسانية فى فنزويلا، والتى فاقمها استغلال الأطراف الداخلية والخارجية لورقة المساعدات الإنسانية للتأثير على مجريات الأحداث هناك، كما بات دخول الأغذية والأدوية إلى فنزويلا بمثابة اختبار حقيقى للقوة بين المعارضة والولايات المتحدة من جانب، والحكومة وروسيا من جانب آخر.

وفى فلسطين حاولت الولايات المتحدة عدة مرات استغلال التمويل المقدم منها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين كأداة ضغط على الفلسطينيين، وأصبح ذلك نموذجا واضحا على عملية تسييس المساعدات الإنسانية، وحتى فى الحرب الروسية الأوكرانية أخيرا تصاعد الحديث أيضا عن محاولات تسييس المساعدات الإنسانية، وطالب مندوب الصين فى مجلس الأمن الأمم المتحدة والمجتمع الدولى بتقديم المساعدة الإنسانية فى أوكرانيا وفقا لمبادئ الإنسانية والحياد والنزاهة على النحو المنصوص عليه فى قرار الجمعية العامة رقم 46/182 وتجنب التسييس.

 

والحقيقة أن المساعدات الإنسانية تعد من أهم حقوق الإنسان المستحقة لضحايا النزاعات المسلحة و الكوارث الطبيعية، لكنها عمل حيادى بطبيعته يجب عدم استغلاله من قبل بعض الأطراف لتحقيق مصلحة سياسية، أو عرقلتها وعلى الأمم المتحدة القيام بواجبها فى ضمان هذا الأمر.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية