تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
من ينقذ السودان؟
شهادات مروعة استمعت إليها يوم السبت الماضى فى نقابة الصحفيين بالقاهرة من السودانيين الذين تمكنوا من الفرار من دارفور بشكل عام والفاشر بشكل خاص بعد نحو 550 يوما من الحصار والقتال، والقتل الجماعى للمدنيين والعنف الجنسى ضد النساء والنهب والسرقة، من جانب ميليشيات الدعم السريع وحلفائه، وهو ما تكرر فى مناطق سودانية أخرى بواسطة أطراف النزاع المختلفين، فى أسوأ كارثة إنسانية يشهدها العالم الآن.
وإذا كانت الرباعية التى تضم (أمريكا، مصر، السعودية والإمارات) قد أعلنت عن خارطة طريق لإنهاء النزاع فى السودان تضمنت هدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر تقود إلى وقف دائم لإطلاق النار، وإطلاق عملية انتقالية سياسية شاملة تختتم خلال تسعة أشهر، وتأسيس حكومة مدنية، فإن هذه المبادرة لم تجد طريقها للتنفيذ حتى الآن، وسط قتال مستعر وتدخلات إقليمية من بعض الدول لتقديم الدعم العسكرى واللوجستى للميليشيات المتورطة فى الحرب الأهلية، وتداعب شبح التقسيم الذى بات أقرب من أى وقت مضى، على جثة الشعب السودانى الذى يعانى أيضا من انقسامات كبيرة بين نخبته وأفراده بشكل يجعل من الصعوبة عليه التوافق على حل واحد.
إن الأزمة الحالية فى السودان هى حرب أهلية مستمرة بين الجيش السودانى بقيادة عبدالفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، لم تبدأ باندلاع القتال بينهما فى أبريل 2023، وإنما تعود جذورها إلى صراعات عميقة تراكمت على مدار سنوات، منذ تفجر الثورة الشعبية فى 2018-2019 التى أطاحت بنظام عمر البشير بعد 30 عاما من الحكم المتحالف مع الجماعات الإسلامية، وتشكيل حكومة انتقالية مشتركة بين المدنيين والعسكريين، ثم تصاعدت الخلافات لتطيح بتلك الحكومة، مما أثار فوضى سياسية واقتصادية، وكان الخلاف الرئيسى حول دمج قوات الدعم السريع فى الجيش السودانى، حيث رفض البرهان دمجها بالكامل، بينما سعى حميدتى إلى الحفاظ على استقلاليتها لتعزيز نفوذه فى مناطق مختلفة من البلاد.
ومشكلة السودان الدائمة هى الانقسامات العرقية والدينية نتيجة التنوع العرقى والدينى الهائل، مع تاريخ طويل من التمييز بين الشمال والجنوب، والمعاناة من جذور العنف التى تعود إلى أحداث دارفور فى أوائل الألفية الجديدة، حيث ارتكبت قوات الدعم السريع (سابقًا الجنجويد) مذابح عرقية، وكل ذلك اشعل النزاع، إلى جانب معاناة السودان من فقر مدقع واعتماد كبير على النفط والذهب، مما أدى إلى صراعات على السيطرة على هذه الموارد، فقوات الدعم السريع تسيطر على مناجم الذهب فى دارفور، بينما يسيطر الجيش على المناطق الشمالية بما فيها من موانى ومطارات، وأسهمت التدخلات الخارجية فى تدهور الأوضاع وإطالة أمد الحرب، التى تحولت من صراع عسكرى محدود إلى كارثة إنسانية شاملة، ومقتل عشرات الآلاف، وملايين النازحين واللاجئين فى الداخل ودول الجوار، وانهيار الاقتصاد والبنية التحتية والخدمات، مع انتشار خطاب الكراهية الذى يغذى التقسيم.
وفى ظل تلك الظروف المأساوية، لا أحد يمكنه توقع مسار الأحداث فى السودان، مما يجعلنا أمام عدة سيناريوهات خلال الفترة المقبلة، الأول: هو سيناريو التصعيد المستمر والحرب الطويلة الأمد حيث يستمر القتال دون حل قريب، مع تقدم الدعم السريع فى دارفور وشرق السودان، مقابل هجمات مضادة للجيش فى الوسط والشمال، وتفاقم الأزمة الإنسانية، مع مجاعة واسعة ونزوح إضافى يصل إلى 15 مليون شخص بحلول 2026، وتحول السودان إلى ساحة للصراعات الإقليمية على الموارد (الذهب، النفط، والموقع الجغرافى)، وبالتالى تفكك الدولة تدريجيا، مع خطر انتشار الصراع إلى جنوب السودان أو تشاد.
والسيناريو الثانى هو التسوية السياسية المدنية التى تدعو إليها الرباعية الدولية، ولن تحدث إلا عبر ضغط دولى مكثف من الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبى، والدول العربية يفرض وقفا لإطلاق النار، يليه انتقال إلى حكومة مدنية انتقالية تشمل قوى الثورة السودانية، مع تفكيك الدعم السريع كقوة عسكرية مستقلة، وإجراء انتخابات بحلول 2027، بعد استعادة الاستقرار النسبى، لكن من الصعب تصور أن الميليشيات مثل الدعم السريع وغيرها أن تقبل بسهولة التخلى عن سلاحها أو الدمج فى الجيش الرسمى للدولة، خاصة إذا كان لديها دعم خارجى.
والسيناريو الثالث هو حسم الحرب عسكريا لمصلحة أحد الجانبين المتصارعين، وهو أمر من الصعب تحققه فى ظل موازين القوى الحالية، ويتبقى السيناريو الأسوأ وهو تقسيم ما تبقى من السودان فعليا، حيث يسيطر الجيش السودانى على الشمال والشرق، ويسيطر الدعم السريع على الغرب، مع استقلال نسبى لدارفور، على غرار ما حدث فى ليبيا أو اليمن، وهو أمر ستكون له تداعيات محلية وإقليمية متعددة، مع أزمة إنسانية دائمة، وتدفق مزيد من اللاجئين إلى دول الجوار.
إن الأمر اللافت للنظر فى الأزمة السودانية هو غياب الجامعة العربية عن الجهود المبذولة لمحاولة التوصل إلى حل، رغم أن السيناريو الأكثر ترجيحا حاليا هو استمرار التصعيد والقتال، وقد يفتح الضغط الدولى بابا للتسوية السياسية إذا تم فرض عقوبات على الداعمين الخارجيين للميليشيات، ودعم سلطة الدولة، وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية، وإذا نجحت الرباعية الدولية فى فرض خريطة الطريق التى طرحتها أخيرا لإنهاء الحرب، لأنها الحل الوحيد المطروح حاليا، وتتضمن إطارا زمنيا واضحا وخطوات عملية ملموسة، تهدف لوقف القتال وبدء عملية سياسية انتقالية شاملة، وتمثل أملا حقيقيا لإنهاء واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية التى يشهدها العالم حاليا، وأن يقتنع السودانيون أنفسهم ونخبهم المختلفة بضرورة نبذ الخلافات بينهم والتوافق على أهمية وقف الحرب فورا، والتعاون من أجل إعادة بناء الدولة، وليس العمل على هدم ما تبقى منها وتقسيم المقسم.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية