تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > علي هاشم > "الست" ..شتان بين الفن والتشويه!!

"الست" ..شتان بين الفن والتشويه!!


لم تكن أم كلثوم يومًا مجرد مطربة يمكن استدعاؤها كلما ضاق خيال صُنّاع الدراما، ولا أيقونة قابلة لإعادة التشكيل وفق مزاج السوق أو حسابات الشهرة السريعة. أم كلثوم كانت مشروعًا وطنيًا كاملًا، وصوتًا صاغ وجدان أمة، ورمزًا ثقافيًا يجب ألا يُمسّ إلا بوعي ومسئولية. ومن هنا، فإن العبث بسيرتها تحت لافتة “حرية الإبداع” لا يمكن اعتباره اختلافًا فنيًا مشروعًا، بل يصبح سؤالًا أخلاقيًا وسياسيًا: من يملك حق تشويه الرموز؟ ولمصلحة من في هذا الوقت بالذات؟
أم كلثوم التي فرضت نموذجاً محتشمًا للمرأة الفنانة دون أن تستعير ملامح أحد، ورفضت تقليد غيرها، لم تكن فقط سيدة الغناء، بل سيدة حضور وقرار. وهي ذاتها التي تبرعت عام 1976 بأربعة عشر ألف جنيه إسترليني لصالح الجيش المصري، وقالت ببساطة: «ده مش كتير على بلدي». فهل يُعقل أن تتحول هذه السيدة، في سرديات لاحقة، إلى نموذج للأنانية أو البخل أو الهشاشة الإنسانية المصطنعة؟
الهجوم على فيلم «الست» لم يكن أزمة تشابه ملامح، ولا اعتراضًا سطحيًا على اختيار ممثلة، بل اعتراضًا على المنهج: منهج الانتقاء المريب، وإعادة ترتيب الوقائع بما يخدم الإثارة لا الحقيقة، والاقتراب من الهامش الإنساني على حساب الجوهر الفني والوطني. فالخطر الحقيقي ليس في لقطة أو مشهد، بل في الرسالة المتراكمة التي تُقدَّم للأجيال الجديدة عن واحدة من أهم رموز مصر المعاصرة.
ولأن التاريخ لا يُقرأ من غرف المونتاج وحدها، فإن شهادة الكاتب الصحفي الكبير مصطفى أمين تفضح زيف كثير من الادعاءات. حين حكى واقعة رفض أم كلثوم إقراض أحد أفراد فرقتها خمسة جنيهات، ثم كشف لاحقًا أنها كانت تعاقبه على القمار بينما أرسلت المال سرًا لزوجته، أسقط عمليًا كذبة “بخل أم كلثوم”. هنا لا نتحدث عن فنانة، بل عن عقل أخلاقي صارم، يرفض شراء الخطأ بالمال، ويؤمن بأن الرحمة أحيانًا تكون قاسية، لكنها عادلة.
ويأتي الفنان محمد صبحي ليُكمل الصورة من زاوية أخرى، لا أقل حسمًا. صبحي لم يتحدث عن انطباعات متأخرة، بل عن تجربة شخصية حين عمل شابًا على شباك تذاكر حفلات أم كلثوم، ورأى بعينيه كيف كان الناس يتعاملون معها باحترام يكاد يشبه التقديس الشعبي. لذلك كان طبيعيًا أن ينسف دعاوى البخل بقوله القاطع: «مفيش أكرم من أم كلثوم». الأخطر في حديث صبحي تحذيره من لحظة يغيب فيها صوت الاعتراض، فلا يبقى من يقول “عيب”، معتبرًا أن ترك الرموز نهبًا للتشويه ليس حرية، بل تفريط في الريادة المصرية، ومسؤولية دولة قبل أن تكون خلافًا فنيًا.
أما الناقدة الكبيرة ماجدة موريس، فرغم محاولتها قراءة فيلم «الست» بعيدًا عن الانفعال، فإن تحليلها كشف بوضوح اختلالات لا يمكن تبريرها. فهي تُقر بالجهد الفني، لكنها تفضح انتقائية السرد، وتغييب أسماء وعلاقات صنعت مجد أم كلثوم، وتقزيم حضورها الوطني والسياسي، وعلى رأسه علاقتها بجمال عبد الناصر. هنا لا يصبح السؤال: هل الفيلم جيد الصنع؟ بل: لماذا اختير هذا الجزء من الحكاية؟ ولماذا صمت الفيلم عن أجزاء أخرى لا تقل أهمية؟
وفي ضوء هذه الشهادات، يبدو كلام الناقد محمد شوقي أقرب إلى صيحة إنذار. فالرجل حذّر صراحة من أن الإنتاج الضخم قد يتحول إلى ستار لتمرير أكاذيب ومبالغات عن أكبر رمز غنائي في الشرق، متسائلًا: ما الفائدة من التركيز على مشاعر المرأة بمعزل عن مشروعها الفني والأخلاقي؟ ولماذا الإيحاء بجوانب سلبية كاذبة في سيرة إنسانة عُرفت بالتدين، وحفظ القرآن، والعمل الخيري، واحترام شركاء رحلتها الفنية؟
القضية إذن ليست فيلمًا، ولا ممثلة، ولا مخرجًا، بل معركة وعي. معركة على الذاكرة، وعلى صورة مصر الثقافية، وعلى حق الأجيال القادمة في معرفة رموزها دون تشويه أو تسطيح. أم كلثوم ليست قديسة، لكنها أيضًا ليست مادة خام لإعادة التفكيك تحت ضغط السوق أو إغراء الجوائز الخارجية.

السؤال الذي يجب ألا نهرب منه:
هل نريد فنًا يقرأ التاريخ ويقدم للناس ما ينفعهم في حاضرهم ومستقبلهم ويعزز لديهم قيم الحق والخير والجمال والانتماء والفخر بأمجاد الوطن وعظمة أبنائه المبدعين الذين شهد لهم العالم بالريادة والعظمة والعبقرية..أم فنًا يزوّر التاريخ  باسم الحداثة وحرية التعبير والإبداع؟
أم كلثوم ستظل قامة عصيّة على الكسر، نعم. لكن تركها بلا دفاع في الوعي العام، هو كسر بطيء للذاكرة… والذاكرة إذا انكسرت، لا تُغنّي من جديد.
من المؤسف، بل المريب، أن تُستباح اليوم رموز بحجم أم كلثوم، لا بوصفها فنانة خالدة في وجدان الأجيال فحسب، بل باعتبارها نموذجًا نادرًا لفنانة مثقفة امتلكت حسًا ثقافيًا ولغويًا ووطنيًا وسياسيًا عاليًا، قلّ أن يجود به الزمن، وندر أن نلمسه لدى كثير من فناني هذا العصر. فالتطاول على أم كلثوم ليس اختلافًا في الرأي ولا اجتهادًا فنيًا مشروعًا، بل تفريغ متعمد للرموز من معناها، وتشويه لتجربة إنسانية وفنية صاغت الوعي العام، وأسهمت في بناء الذائقة والضمير الجمعي. والأخطر أن يتم ذلك بموافقة، بل ومشاركة، ممثلين يقبلون أدوارًا لا تضيف للفن ولا للجمهور ولا للوطن، بل تعمّق الانقسام، وتشتت الأذهان، وتهدم القيم المستقرة، وتفتح الباب أمام تسطيح الوعي وتشويه رموز يصعب أن يجود بمثلها الزمان. فحين يُستبدل العمق بالإثارة، والتاريخ بالجدل، يصبح الصمت تواطؤًا، والدفاع عن الرموز واجبًا لا رفاهية.
أقول لمن يريد تشويه الست أم كلثوم صوت الوطن والفن العابر العصور ..لم ولن تنجحوا مهما فعلتم.. أما المؤلف والمخرج وأبطال الفيلم فعليهم أن يقرأوا تاريخ  " الست" جيدا قبل الخوض في سيرتها!!

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية