تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > علاء طه > "لهيب الصيف" و"محنة" إسكوبار وأياد أختار ما بين الثروة والشهرة

"لهيب الصيف" و"محنة" إسكوبار وأياد أختار ما بين الثروة والشهرة

تحتاج في الصيف إلي "إرادة فولاذية" للإنجاز.. لهيبه يحرق أعصابي، لذا آمنت - منذ زمن بعيد - أن الحر الشديد والرطوبة القاسية "مِحنة" لا ينبغي التعامل معها بتهاون. استعد للصيف بجحيمه –مبكرًا- بالفحوصات الطبية الشاملة، وصيانة المكيفات من البيت إلي السيارة. ولم لا، فالأبحاث العلمية تربط بين ارتفاع درجات الحرارة والأمراض النفسية التي تبدأ من القلق والاكتئاب والعدوانية وتنتهي بالانتحار والموت.. والدراسات الاجتماعية تربط الحر بالفقر والكسل والمرض وتدهور الصحة العقلية.

بشكل عام لا أحب الصيف، فأروض جسدي علي فقدان الكثير من الماء والأملاح، وأتحايل علي أجواء الغضب حولي من القريب والغريب، وأجتنب الحوارات والنقاشات العدوانية، وأؤهل نفسي للفقدان، لفقدان أي شيء. أدير ظهري للمحنة بمزيد من التركيز أكثر من العادي، وأقرأ بمعدلات ساعات أكثر من باقي العام، وأكتب كثيرًا، وألجأ للموسيقي، واستعين بالأفلام والمسلسلات. برأيي هذا هو السبيل الوحيد للهروب من الحر والمرض والقهر والقبح والخيبات.

استقبلت هذا الصيف بمشاهدة مسلسل أمريكي أجلته كثيرًا بأجزائه الثلاثة، عن بابلو إسكوبار أشهر مهرب وتاجر للمخدرات في التاريخ، ابن كولومبيا اللاتينية، التي ترقد بين المحيط الهادئ والبحر الكاريبي، وسط غابات بكر، خيالها الخصب أخرج لنا ماركيز من فانوس سحري ليحكي لنا ما لم يحكه أحد من قبله ولا من بعده، وبهجتها وصخب رقصاتها من الصالصا إلى التانجو نحتت لنا شاكيرا ونفخت فيها روحًا غجرية لتمتعنا بلا نهاية، وإسكوبار رغم أنه مجرم عتيد راوغ حكومات وقوى عظمى إلا أنه يكمل ثلاثي كولومبيا في الدهشة الذي يقف علي حافة الخير والشر، ويتكئ علي عصا الجمال والحكمة والقص والسخرية والخشونة، ويغرف من بئر الأسطورة.

ما إن انتهيت من المسلسل، حتى أنهيت كتاب "مرثيات وطن" للأمريكي أياد أختار، الكاتب المسرحي من أصول باكستانية، الذي حصد جائزة بوليتزر العريقة عن مسرحية "موصوم" عام 2013. باكستان التي تعني بالأردية "الأرض الطاهرة"، هي ابنة أفكار الشاعر والفيلسوف محمد إقبال- الذي غنت له أم كلثوم "حديث الروح"- تبدو محشورة وفي أزمة جغرافية ما بين الهند وأفغانستان وإيران، لذا صارت أرض الحروب والمعارك وحديقة خلفية لأجهزة المخابرات من كل صنف ولون. ولأنها في أزمة أفكار وهويات، لذا لطالما سقطت في فخ الانقلابات العسكرية، ولطالما غرقت في برك الاغتيالات والدماء، وهو ما دفع أبناؤها للشتات، هربًا من القتل والفقر والإرهاب والتطرف. ولأن الفارين من النخبة اتجهوا إلي أمريكا ليبرعوا في الطب والبيزنس والأدب. أياد أختار الذي ولد في أمريكا لأب وأم باكستانيين، والذي بزغ نجمه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، في عمله الأخير "مرثيات وطن" الصادر في 2020 يبرع في قص سيرته الذاتية علي تخوم الخرافة مستعينًا بالسرد القوي ليضع الملح في الجروح ما بين باكستان وأمريكا،

وبقدر ما أثار الكتاب الجدل في أمريكا، بمقدار ما التهم الجوائز واحتل قائمة الأكثر مبيعًا والأفضل في المحتوي. الرابط ما بين مسلسل إسكوبار وكتاب أياد أختار،
أولًا:الولايات المتحدة الأمريكية وعلاقتها بكولومبيا من ناحية وباكستان من ناحية أخرى،  
وثانيًا: الهم والمعاناة الإنسانية سواء في حياة تاجر مخدرات أو في حياة كاتب مسرحي كبير ما بين الثراء والشهرة والسلطة،
وثالثًا: اللطف والرهافة التي تكلل العملين سواء الفيلم أو الكتاب، قوة الحكاية، وروعة الأسطورة، والمشاعر الجياشة التي تبدأ من أبسط التفاصيل وتنتهي بجلال الموت.

في مسلسل "Narcos" يَوعد بابلو إسكوبار طفله الصغير خوان برحلة إلى مدينة ديزني لاند بالولايات المتحدة الأمريكية عبر مشهد حالم تتغلب فيه مشاعر الأبوة ونعومتها علي خشونة وقسوة مُهرب المخدرات الأسطوري، الذي كان متصدرًا قائمة أثرياء العالم، حسب فوربس، من تهريب الكوكايين لأمريكا وأوروبا.
المشهد في المسلسل الأمريكي، الذي بث في  ثلاثة أجزاء مثيرة بداية من عام 2015 عبر نتيفلكس، يأتي في قلب مطاردة الحكومة الكولومبية ومكتب مكافحة المخدرات الأمريكي للقبض عليه وتفكيك إمبراطوريته في مدينة مديلين، كان إسكوبار هاربًا في بيت ريفي، بعيدًا عن اليد الطُّولى للرئيس الأميركي بوش الأب، الذي وعد شعبه بالقضاء على إسكوبار وتجارته، عارضًا مليوني دولار أمريكي مكافأة لمن يدلي بمعلومات عنه، وكان طفله مرتبكًا يشعر بالخوف، وفجأة تحول إسكوبار من قائد مافيا تهريب شرس لا يرحم، يُخير ضحاياه بين "الفضة والرصاصة"، إلي أب حنون يَوعد طفله برحلة بعد انتهاء الصراع إلى ديزني لاند.. في مشهد تال يتحول الوعد إلى أُمنية شخصية وهدف ويسأل إسكوبار أحد رجاله في هيام :هل زُرت ديزني لاند من قبل؟!
حلم إسكوبار بزيارة ديزني مع طفله مات معه، فبعدها بأشهر سيموت وحيد علي سقف منزل وهو يهرب برصاص مطارديه، ولن تبقي سوى أسطورته في عالم المخدرات.. صبي يَنشل كل شيء من الشوارع الخلفية لمدينة ميديلين الكولومبية، ويُهرب كل شيء ممنوعًا، وينهب السيارات، ويخطف الأثرياء مطالبًا بالفدية، حتى يظهر الكوكايين في السبعينيات فيؤسس مافيا عابرة للقارات تنقل المخدرات بالطائرات والغواصات إلي أمريكا وأوروبا..

وبينما تتراكم مليارات الدولارات في جعبته، يسعى لتحقيق حلم طفولته بأن يصبح رئيسًا لكولومبيا، وتذيع شهرته "نصيرًا للفقراء"، يوزع عليهم المال، ويبني لهم المنازل، ويفوز في انتخابات ديموقراطية بعضوية البرلمان، لكن الصحافة وألاعيب السياسيين تطارده، ليجد نفسه مطرودًا من البرلمان، ومطاردًا بتهم الفساد وغسيل الأموال والتجارة بالمخدرات، ورأسه مطلوبة من الجميع، فيخوض حربًا مع الجميع يروح ضحيتها المئات من الضباط والأبرياء، وعندما يُقتل بالنهاية وتصفي عصابته، يمشي وراء نعشه 25 ألفًا من الفقراء والمحبين، ويعتبرونه روبن هود، ولا تزال صورته الباسمة أيقونة بين الشباب تنافس صورة جيفارا، يطبعونها علي التيشيرتات والقمصان والساعات وألعاب الأطفال.. وأُلفت عن حياته العديد من الكتب التي تحقق أعلى المبيعات، ولا يزال المعجبون به يضعون أكاليل الزهور علي قبره، وتحولت مدينته ميدلين إلي مزار، ومزرعته صارت متحفًا يؤمه آلاف السائحين سنويًا.

حلم ديزني الذي يموت مع إسكوبار، يولد ككابوس عبر السيرة الروائية الموجعة لأياد أختار، فعندما تتعطل سيارة البطل - عقب احداث 11 سبتمبر - في طريق عودته، من رحلة لا تنسي، مع والديه بمنتجع في شمال كاليفورنيا، يقف رجل شرطة ليساعده، وفي إنتظار شاحنة ورشة تصليح السيارات، يسأله الشرطي عن أصل اسم "أياد" الذي يحمله، فيرتبك مخافة مشاعر الكراهية للمسلمين بعد تفجيرات البرجين والشكوك التي تجتاح رجال الأمن تجاه كل من هو عربي أو مسلم، ويخبره أنه هندي ثم يتدارك الأمر ويقر بأنه مصري، حيث كان لوالديه صديق مصري له ابن يحمل هذا الاسم، فيحدثه رجل الشرطة عن اعجابه بكتاب "البروج المشيدة" للمؤلف لورانس رايت، الذي يتناول تاريخ الإسلام السياسي من الإخوان إلي بن لادن، ويقول له عن المشاركين في التفجيرات:"هذا الكتاب جعلني أفهمهم (...) إنهم وحوش.. عندما تري ما يحدث في بلدانهم، ومدي فوضي كل شئ بالنسبة إليهم، ومدي صعوبة الحياة لهؤلاء الذين يعيشون هناك.. تبدأ في إدراك الطريقة التي يرون بها عالمنا. يمكنك ان تفهم كيف بدأوا في التفكير في أن "ديزني لاند" تمثل مشكلة حقيقية ولها علاقة بكل شئ". يتساءل المؤلف:"ديزني لاند". فيؤكد الشرطي:"أجل. "عطا" -وهو يقصد محمد عطا قائد التفجيرات المصري_  كان يكره "ديزني لاند" اعتقد أن أمريكا تحول العالم إلي مدينة ترفيهية. وينما يلتزم المؤلف الصمت، يتصنع الشرطي أنه يجري مكالمة لكنه يفحص بيانات الكاتب الحكومية. ويتعامل معه علي أنه مشتبه فيه.
الخوف دخل حياة أياد أختار وكل العرب والمسلمين بعد تفجيرات البرجين، ما حدث أبرزهم كأقلية، وحاصرهم كمتهمين، تم وضع وجه الجميع إلي الحائط، ونُبشت جيوبهم وحياتهم الخاصة وصار عليهم الدفاع عن أنفسهم، وتحولت أمريكا من وطن لهم، إلي مكان يعيشون فيه الخوف، وتتنازعهم الحيرة عن الهوية والانتماء والدين والأرض، وأصبح "الإسلام في نظرهم مثل السرطان، لا شىء إيجابي في مضمونه".. عندما وقعت التفجيرات كان في نيويورك وذهب ضمن الجموع للتبرع بالدم للمصابين في الأحداث، وأثناء وقوفه بطابور المتبرعين تطاول عليه لفظيًا رجل أبيض وسبه علي أنه مسلم ينتمي للإرهابيين الذين قاموا بالتفجيرات، مما جعله يبول علي نفسه أمام الجميع ويفر من المكان مذعورًا خائفًا من أن يقتله الرجل. تاليًا سيعترف للفتاة الباكستانية التي يمارس معها الحب عندما تعثر علي سلسلة بها صليب مخبأة في حمام شقته بأنه بعد أن بال علي نفسه سرقها من محل يديره قسيس وارتداها لعدة أشهر حتي لا يعرف أحد أنه مسلم فيدخل في مشكلة أو يتعرض لإيذاء لفظي أو جسدي.

قصة حياة اسكوبار عظيمة، وسيرة حياة أياد أختار ملحمية غنية بالتفاصيل.. يربط بينهما علاقة أمريكا بالآخر.. علاقة أمريكا بكلومبيا كحديقة خلفية تتدخل فيها كل الأجهزة الأمريكية من أجل مصالحها فقط، وعلاقة أمريكا بباكستان حيث زرعت ورعت الإرهاب فيها من أجل مواجهة السوفيت، ثم حصدت المر والحنظل والرعب والقتل من هؤلاء الإرهابيين في تفجيرات سبتمبر، "عندما تطعم وحشًا، فإنه ينمو. وعندما يهاجمك أنت في نهاية المطاف، فلا تلومن إلا نفسك".

إسكوبار لم تعن له مليارات الدولارات ولا الشهرة ولا السطوة ولا القوة شىء في مقابل نظرة في وجه طفله ولمعة عيون أمه بالرضا وحضن زوجته التي كان يعشقها. فضحي بكل شىء من أجلهم.. وأياد أختار رغم كل ما حققه من شهرة ككاتب مسرحي وروائي وكل ما جناه من ثروة طائلة يعترف:" رأيت الآن أن جزءًا من الدافع وراء عمل حياتي –القراءة والأدب والمسرح – كان السعي وراء شىء بسيط مثل نظرة أمي، وهي النظرة التي أعطتها للكتب بسعادة.
يقتبس "أياد أختار" مقولة الروائي البريطاني ديفيد هنري لورانس صاحب رائعة "عشيق الليدي تشاترلي":"لا تثق أبدًا بالفنان، بل ثق بالقصة"، فنحن أمام حياة إسكوبار وحياة أياد أختار أمام قص إنساني عظيم، صعودًا من الفقر للثراء..

رحلة من المجهول إلي الشهرة.. كيف يتحول الخوف إلي عامل قوي للنجاح؟ كيف ينجح الغضب في تحريك الواقع للأفضل؟! المسلسل يستحق المشاهدة، والكتاب يستحق القراءة والتأمل، فالكاتب دوايت جارنر الصحفي بجريدة "نيويورك تايمز" يقول عن رواية أختار أن لها نفس أصداء "جاتسبي العظيم".

alaatahajournalist@gmail.com

  •  

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية