تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > عثمان الدلنجاوي > صنع الله إبراهيم .. ضمائر الإبداع لا تموت !!

صنع الله إبراهيم .. ضمائر الإبداع لا تموت !!

رحل صنع الله إبراهيم الروائي أحد أعمدة السرد العربي المعاصر والرواية، ومن أهم رموز جيل الستينيات، تاركا إرثا ثقافيا بمذاق خاص، فأعماله تحمل نبرة صدامية مشاكسة، ونقداً لاذعاً لمجمل الأوضاع السياسية والمجتمعية، كما اهتمت رواياته بالتحليل الاجتماعي والاقتصادي للسلوك الإنساني في المجتمع المصري والعربي بشكل عام.
وهى روايات تمتاز بالعمق في الرؤية، مع التزام دائم بقضايا الوطن والإنسان، وهو ما يجعله مثالًا للمبدع الذي يمزج الحس الإبداعي بالوعي النقدي.
رحل صنع الله إبراهيم ليترك، في ساحة الإبداع الأدبي والثقافي، فراغا يتمدد كلما تراجعت قرائح الإبداع وذائقة المبدعين لأسباب يطول شرحها.
 لم يكن الرجل، وهو الروائي الأريب، يكتب لا ليُعجبك، بل ليوقظك. لم يتودد للقارئ، بل صفعه بلطف، ليضعه أمام مرآة الواقع مهما كانت بشعة. أسلوبه كان متقشفًا، خاليًا من الزينة، صارمًا في التوثيق، دقيقًا في النبرة، لا يغري القارئ بالجمال بل بالحقيقة.
رحيله اليوم يعيدنا إلى سؤالنا الأول: من يقرأ؟ ولمن نكتب؟ وما مصير الأدب حين تُختزل الثقافة في منشور سريع، أو مقطع فيديو، أو تغريدة؟ لم يكن صنع الله نجمًا، بل ضميرًا. والضمائر لا تموت، لكنها تصمت حين لا تجد من يصغي. اختفى جيله، أو كاد، ليس لأن الزمن تجاوزهم، بل لأننا تجاوزنا نحن معنى الثقافة ذاتها: أن تكون وعيًا لا زينة، موقفًا لا سلعة، مسؤولية لا ترفًا.
رحيل صنع الله إبراهيم يعيدنا لسؤال مركزي:
من يقرأ اليوم؟ وماذا نقرأ؟ وهل يعرف جيل اليوم من هو العقاد أو طه حسين أو توفيق الحكيم وغيرهم؟ أين ذهبت تلك القامات الفكرية التي كانت تهز الرأي العام بكتاب، أو تفتح جدلًا واسعًا بمقال، أو تُربك السلطة بعبارة؟ لماذا لم يعد للثقافة ذلك البريق القديم، ولا للكاتب تلك الهيبة التي كانت تفرض الاحترام حتى على خصومه؟ لماذا تراجع حضور المثقف في المشهد، ليصعد بدله المؤثر، والمُدوِّن، وصاحب الرأي العابر أو اليوتيوبر أو التيك توكر؟
في هذا الفراغ الثقافي، يبدو رحيل صنع الله إبراهيم أكثر من مجرد خبر. إنه خسارة حلقة أخرى في سلسلة بدأت بالعقاد، ومرت بطه حسين ونجيب محفوظ، وها هي تنتهي — ولو مؤقتًا — بصوت كان لا يزال يكتب ويحتج ويشهد حتى آخر أيامه. فقد نعاه رئيس مجلس الوزراء، الدكتور مصطفى مدبولي، بكلمات تنمّ عن إدراك وطني لحجم الخسارة، مؤكدًا أن "الإرث الأدبي الزاخر الذي قدمه الأديب الراحل سيجعل منه أيقونة خالدة في مسيرة الإبداع العربي، وأحد رواد الأدب المصري المعاصر". كما وصفه بأنه "أحد مؤرخي العصر الحديث"، وهو توصيف دقيق، لأن ما كتبه صنع الله لم يكن خيالًا مفصولًا عن الواقع، بل كان شهادة أدبية على ما عاشه جيل، وما كتمه مجتمع، وما حاول التاريخ الرسمي أن يتجاوزه.
الرجل لم يقدّم نفسه نبيًا، بل شاهدًا. أعماله لم تُكتب لتُباع في معارض الكتب، بل لتبقى في الذاكرة الجماعية كعلامات فارقة. من رواية اللجنة التي صاغت مأزق الفرد في مواجهة البيروقراطية القاهرة، إلى شرف التي حوّل فيها السجن إلى وطن بديل حافل بكل تناقضات المجتمع، إلى ذات التي سرد فيها حكاية مصر الاجتماعية والسياسية من خلال سيرة امرأة واحدة. لم تكن أعمالًا للنخبة فحسب، بل نصوصًا كاشفة للطبقات، للأسى، للخذلان، وللأمل المشوب بالخوف. تلك الرائحة، أولى تجاربه، جاءت كطلقة خجولة في بدايتها، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى مشروع صدامي واعٍ، امتد ليشمل أعمالًا مثل بيروت بيروت، والعمامة والقبعة، وأمريكانلي، التي شكّلت عبرها رواياته أرشيفًا مضادًا للسرد الرسمي.
إن رثاء صنع الله إبراهيم ليس مجرد تأبين لاسم أدبي، بل نداء أخير لجيل لم يعش زمنه، لكنه بحاجة ماسّة إلى أن يفهمه. بحاجة لأن يتعلم من تمرده، من عزلته التي لم تكن هروبًا، بل حفاظًا على نقاء الفكرة. علينا أن نعيد الاعتبار للقراءة بوصفها فعل مقاومة، لا تسلية. أن نقرأ لنفهم، لا لنتباهى. أن نعيد المثقف إلى موقعه الحقيقي: منارة وسط الضباب، لا ظلًا في زحام الصخب.
لقد مات صنع الله إبراهيم، لكنه ترك خلفه ما يكفي لنعرف كيف يمكن للكاتب أن يصير أكبر من كتبه، وأقوى من زمنه. وما لم نستفد من درسه الأخير، فربما لن يكون القادم سوى المزيد من الصمت، والمزيد من الضياع في زمن فقير في القامات، زمن بلا أسئلة، ولا ذاكرة.
ولمن لا يعرف صنع الله إبراهيم فهو من مواليد 24 فبراير 1937،  وهو كاتب وروائي مصري يميل إلى الفكر اليسارى ومن الكتاب المثيرين للجدل، خصوصاً بعد رفضه استلام جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي عام 2003 والتي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة. سُجن أكثر من خمس سنوات من 1959 إلى 1964..ويبقى رحيل صنع الله إبراهيم موتا بطعم الخلود.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية