تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
من يملك.. ومن يستحق
فى نهاية سبعينيات القرن الماضى اجتمعت فى مدينة برلين الألمانية مجموعة محدودة من النخبة الصحفية، معظم أفرادها من دول العالم الثالث، لمناقشة مشاكل الصحافة فى العالم الثالث، كان المؤتمر مثمرا وعظيم الفائدة، خاصة مع حضور مجموعة متميزة من صحفيى العالم المتقدم، وعلى هامش المؤتمر، تم توجيه الدعوة لعدد من قادة الرأى والمفكرين والكتاب، للحديث عن قضايا الصراع المزمنة بمناطق التوتر بالعالم، ومن بين هؤلاء كاتب صحفى تمتع بشهرة فى ذلك الوقت، وكان دوره الحديث عن قضية الصراع العربى الإسرائيلى.
واعتمد هذا الكاتب فى محاضرته على المقولة التى انتشرت وقتذاك وتقول »إن من لا يملك أعطى وعدا لمن لا يستحق«، وقد تصور أنه سيتمكن من اقناع الحاضرين بعدالة القضية، ولكنه قبل أن يصل الى هذه النقطة كان قد أوضح أن حركة إقامة المستوطنات اليهودية على أرض فلسطين قد بدأت عامى 1881 ـ 1882 على يد بنسكر، أى قبل انعقاد المؤتمر الصهيونى الأول عام 1897 وصدور كتاب «الدولة اليهودية». ومضى فى سرد عشرات الحقائق التاريخية ابتداء من قرار التقسيم 1947، ورفض العرب والقوى الفلسطينية له، ثم اندلاع المعارك العسكرية اعتبارا من مايو 1948، وميلاد دولة إسرائيل، وتمكن إسرائيل من الانتصار فى معركة 1967، ولكنها تواجه هزيمة عسكرية مؤثرة فى أكتوبر 1973، يعقبها التوصل الى اتفاقية سلام مع مصر 1979، بعد زيارة السادات التاريخية للقدس فى نوفمبر 1977.
ولم ينس أن يذكر تورط دولة إسرائيل فى جرائم غير مبررة فى حق الفلسطينيين والعمل بشكل مستمر لاقامة المستوطنات على الأراضى الفلسطينية. وبعد هذا السرد التاريخى، حاول تلخيص أسباب الصراع وجوهر القضية بقوله »إن من لا يملك أعطى وعدا لمن لا يستحق«. وبهدوء شديد سأله عدد من الصحفيين الألمان عن الذى كان يملك أو كان يستحق عندما قرر المنتصرون فى الحرب العالمية الثانية تقسيم ألمانيا الى دولتين، وانتقلوا من هذه الحقيقة الى حقيقة تاريخية أخرى حول إقدام القوى المنتصرة على إعادة رسم خريطة القارة الأوروبية. ولم يتوقف الأمر عند حدود ماجرى بعد الحرب العالمية الثانية، وتحدث آخرون عن عملية اقتسام التركة العثمانية بعد الانتصار فى الحرب العالمية الأولى عام 1919، لقد كانت القوى الأوروبية فى انتظار الظروف المناسبة لإعلان نهاية الامبراطورية العثمانية التى ظلت توصف برجل أوروبا المريض طويلا. لقد كان الانتصار والتحول فى موازين القوى هو السبب فيما جرى بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. وأكدوا أنه لم يكن هناك شىء اسمه من يملك ومن يستحق، فحركة التاريخ ونشوب الصراعات تخضع دائما لتباين الأهداف الاستراتيجية للقوى المؤثرة. ولم يختلف الأمر بالنسبة للقضية الفلسطينية، ولم يستجد الأمر إلا بعد الانتصار العسكرى المصرى فى معركة 1973، فالمنتصر فى هذه الحرب فرض واقعا جديدا فتح الطريق لاتفاقية سلام.
لقد ظل العالم فى منطقة الشرق الأوسط يعتمد فى طرح مقولاته على أسانيد تاريخية وقانونية، ولم يفلح ذلك فى تغيير مسيرة الصراع، الانتصار المصرى كان الطريق لحدوث تغيير جذرى فى مسيرة الصراع.
وأسقط فى يد الكاتب الصحفى المحاضر الذى لم يكن يتوقع أن تثير المقولة التى طرحها كل هذا الاختلاف، لقد تصور أنها مقولة صائبة، وهى كذلك فعلا، فهى تعبر ببلاغة عما جرى، ولكن البلاغة والصياغة الجيدة لم تجد طريقها الى الحاضرين. إنهم يعرفون أن بلفور وزير خارجية بريطانيا قد أصدر وعدا عام 1917 يمنح اليهود وطنا فى فلسطين، ولم يكن بلفور يملك أرض فلسطين، ولا كان اليهود من أصحاب الحقوق فى هذه الأرض. ولكنهم وهم يعرفون ذلك، يعرفون أيضا أن التاريخ لا يتحرك وفقا لمنطق المالك والمستحق، هناك الأهداف الاستراتيجية للقوى العظمى والكبرى، ومنطق القوة وتوازنات القوى، العالمى منها والاقليمى. واكتشف الكاتب الكبير أنه لم يستعد جيدا لهذه المحاضرة، وأنه لم يوفق فى العثور على الطريق للوصول الى العقلية الأوروبية بصفة عامة، ولهذه النخبة من الصحفيين والكتاب والمفكرين الأوروبيين، لقد تبين بعد أن توقف مع نفسه لدراسة ماجرى، انه كان أسيرا لنهج المرافعات التاريخية والقانونية الذى أدمنه الشرق، وأن هذا الأسلوب قد يكون مناسبا لمخاطبة الرأى العام فى الشرق الأوسط، ولكنه لا يمكن أن يكون طريقا باقناع الآخرين بعدالة القضية الفلسطينية.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية