تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
استبداد نووى
لم تكن الضربة الإسرائيلية الأخيرة على ايران تصعيد عسكرى عابر، أو حتى تصفية حسابات إقليمية، هى جزء من معركة استراتيجية تهدف إلى إعادة تشكيل موازين قوى الشرق الأوسط، حلقة مركزية فى مسعى الغرب لاحكام سيطرة القطب الأوحد على العالم واجهاض التوجه نحو عالم ثنائى أو متعدد الاقطاب.
منذ نشأتها كأداة غربية لم تستقل بقرار بقدر ما كانت أداة متقدمة ضمن المشروع الغربى فى الشرق الأوسط، جرى توظيفها كقاعدة لتنفيذ مخططات الغرب فى المنطقة: تفكيك المجتمعات، ضرب القوى الصاعدة، ونهب الموارد الاستراتيجية، تحت غطاء سياسى وعسكرى واقتصادى من واشنطن وحلفائها.
تنسيق ترامب مع نتنياهو لشن الحرب ليس قرارا عابرا، هو امتداد لاستراتيجية أمريكية أشمل تهدف إلى إخضاع العالم مجددا لهيمنة القطب الأوحد، عبر توظيف إسرائيل كأداة ضاربة في مواجهة القوى الرافضة للانصياع، وفى مقدمتها إيران.
حظيت تل أبيب بغطاء سياسى وعسكرى غربى، لعبت فيه الولايات المتحدة دورا استخاربيا ولوجستيا محوريا، وأمنت الغطاء القانونى والدولى عبر ادعاء الدفاع عن النفس! واختتمته بقصف المواقع النووية بطهران فيما حملت الدول الأوروبية "بريطانيا، فرنسا، ألمانيا" إيران مسؤولية التصعيد متغاضية عن الاعتداءات الإسرائيلية!!
في المقابل، بدت مواقف الصين وروسيا، حليفى إيران، أقل حدة من حلفاء تل أبيب؛ إذ أدانت بكين الهجوم الأميركى، ووصفت موسكو الضربات بأنها انتهاك صارخ للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
وعلى الصعيد العربي، أصدرت 21 دولة عربية وإسلامية بيانا دعت فيه إلى احترام سيادة الدول والعودة إلى طاولة المفاوضات.
بينما برز موقف باكستان الداعم لطهران والداعى إلى وحدة إسلامية في مواجهة تل أبيب.
الرأي العام العربي والإسلامي انحاز بوضوح لإيران، رافضا الهيمنة الصهيونية، متبنيا رواية طهران، بوصفها هدفا لعدوان مقنع بـ"الدفاع عن النفس"، حتى باتت شعارات المقاومة تُردد خارج الدوائر التقليدية الداعمة لها.
المعركة الحالية أكبر من أن تختزل فى ردع إيران، تهدف إلى تجميد التحول العالمى نحو نظام متعدد الأقطاب، فإيران كانت ولا تزال خط الدفاع الأول أمام الانفراد الأمريكى-الإسرائيلى بالمشهد الاقليمى فالعالمى؛ حال الانتهاء من طهران، يتجه الضغط نحو روسيا، الصين، ثم الدول العربية، وتعاد الهيمنة الأمريكية بأشكال أكثر وحشية عسكريا وتكنولوجيا واقتصاديا.
الهجوم المباغت الذى نفذته اسرائيل فى اليوم التالى لانتهاء المهلة! التى منحها ترامب لطهران بشأن الملف النووى، "الذى تمتلكه" مستهدفة أكثر من مائة موقع نووى وعسكرى، بجانب اغتيال عددا من القيادات البارزة، واستهداف مبنى الإذاعة والتلفزيون، وقناة "الخبر" الناطقة بالفارسية، لإسكات الإعلام المحلى بهدف افساح المجال لخطاب المعارضة الممول خارجيا لتأجيج ثورة شعبية، جاءت بنتائج عكسية اذ التف الشعب الايرانى حول قيادته.
القصف الإسرائيلي لا يستهدف إيران فقط، بل مشروعها فى التصدى لإعادة ترسيم خرائط المنطقة، إسقاط طهران يمهد لانكشاف الساحات العربية واحدة تلو الأخرى، بدءا من سوريا ولبنان، ووصولا إلى اليمن والخليج وحتى مصر.
منح نتنياهو عمليات بلاده بعدا لاهوتيا، واصفا إسرائيل بـ"الأسد الصاعد"، مستندا إلى نبوءات توراتية تروج للتفوق الروحى والعسكرى، لم يكتف باستهداف إيران فحسب، وسع دائرة الخطاب نحو حصار حلفائها في سوريا ولبنان واليمن.
عبر قناة فارسية معارضة، حرض الشعب الإيرانى على الثورة ضد قيادته بالتزامن مع استخدام رضا بهلوى، نجل الشاه، ليطرح نفسه كبديل للنظام الايرانى، مما أعاد للأذهان مشهد الانقلاب الامريكى البريطانى ضد حكومة مصدق 1953، وزيارة بهلوى لتل أبيب، فى تحرك يعكس الرغبة فى إعادة إنتاج نظام الشاه، الذى قوبل برفض شعبى.
وبذلك يبدو جليا أن الهدف الانقلاب على النظام الايرانى وتنصيب تابع للغرب واسرائيل، لنهب ثمار طهران يسبق القلق من برنامجها النووى كما يدعون!، الهدف تفكيكها من الداخل، عبر إعادة تدوير مشروع الشاه بصورة جديدة لتفعيل سيناريوهات الهيمنة، باستخدام سلاح الإعلام، والعملاء، والانقلابات الناعمة.
الحرب على إيران إذن لا تنفصل عن أطماع الغرب فى مواردها الهائلة، فهى الرابعة عالميا فى احتياطى النفط، والثانية فى الغاز الطبيعى، لذلك تسعى القوى الغربية لنهب هذه الثروات الاستراتيجية؛ ما يقدم اليوم كضربات استباقية هو غطاء لغزو اقتصادى فى ثوب عسكرى.
لم تكن الحرب عسكرية فقط، بل خاضت إسرائيل حربًا خفية لا تقل تأثيرًا. أنشأ الموساد قاعدة سرية داخل إيران خزن فيها مسيرات متطورة استهدفت الدفاعات الجوية ومنصات الصواريخ، ومهدت لاختراق جوى واسع، بينما عطل العملاء الاتصالات والرادارات بمركبات تشويش أربكت مراكز القيادة.
بالتوازي، تعرضت ايران لهجوم سيبرانى واسع من مجموعة "العصفور المفترس"، استهدف بنك "سبه" الممول للحرس الثورى، وعطلت أنظمة الصرف ومحطات الوقود، فى ضربة مركزة على مفاصل التمويل والبنية التحتية.
رغم المفاجأة جاء الرد الإيرانى محسوبا؛ أطلقت طهران الصواريخ والمسيرات التى اخترقت العمق الإسرائيلى، متجاوزة منظومة الدفاع العبرية، فى ظل قيود داخلية تواجهها طهران من غياب سلاح جو متطور وضعف الدفاعات الجوية وضغوط اقتصادية واختراق أمنى، ومع ذلك، حطمت صورة الجيش الذى لا يُقهر.
طهران لم تلعب بكامل أوراقها بعد؛ ما حدث كان إنذارا لا الحد الأقصى، تحتفظ إيران بقدرات على إطلاق صواريخ بعيدة المدى، وزرع ألغام بحرية، وإغلاق مضيق هرمز، واستهداف المزيد من القواعد الأمريكية، ما دفع واشنطن إلى سحب قواتها جزئيا من قطر.
على الجبهة الرقمية، نفذت إيران هجمات سيبرانية على أنظمة حكومية وعسكرية أمريكية، منها معهد وايزمان المرتبط بوحدة 8200، الذراع السيبرانى للجيش الإسرائيلى، كما ارتفعت الهجمات الرقمية بنسبة 700%، وهددت جماعات موالية لطهران مصالح إسرائيل وحلفائها، بينما حجمت إيران استخدام "واتساب" خشية الاختراق.
أرست هذه الحرب معادلات جديدة، لم تعد القوة تقاس بالسلاح، بل بالقدرة على السيطرة على البيانات والسرديات، تصاغ القوة في فضاء رقمى، مسيرات وخوارزميات باتت تقود المعركة، حيث تدار العمليات عن بعد، وتتخذ قرارات القتل بأوامر من خوارزميات ذكية.
الأتمتة العسكرية ليست مجرد تطور تقنى، بل نقلة نوعية تعلن دخول العالم عصر "اتمتة القتل الجماعى" معركة خوارزميات ونظم تشغيل آلى، تحولت المسيرات رأس الحربة في الضربة الأولى، تفعل عن بعد عبر كود برمجى، تخاض الحروب بالمعلومة لا بالبارود، أو الأوامر العسكرية.
الهجوم على إيران ليس نهاية المعركة بل بدايتها، المشروع الصهيونى ماضٍ بدافع الحرب على الاسلام، والصمت لن يكون حيادا ولن يجنب أحدا مخطط التقسيم، سيكون موافقة ضمنية على حريق يحاول احراق المنطقة. فهل نستفيق؟
لا خلاص إلا بإعادة بناء القرار السياسي والعسكري بشكل مستقل، مجتمعاتنا بحاجة إلى تماسك داخلي، وسيادة معرفية وتقنية، بدلا من التبعية والتشتت. حتى نكون قادرين على الدفاع عن أنفسنا بأدواتنا لا ببيانات الشجب والاستنكار.
وأخيرا حرب العراق ليست ببعيدة، ادعاءات مشابهة دمرت بلد مستقل تحت شعار الدفاع عن النفس. فهل نكرر أخطاء الأمس؟ أم نصحو قبل أن نجد أنفسنا فى الصف التالى من قائمة الاستهداف؟
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية