تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > عبدالرحيم كمال > حينما تصبح التكنولوجيا فى خدمة الجهل!

حينما تصبح التكنولوجيا فى خدمة الجهل!

فى تلك الأيام العجيبة وبمتابعة بسيطة للمشاهد التى احتلت الصدارة على ساحة الترندات ووسائل التواصل الاجتماعى لناد كبير عريق انتشرت أقاويل تعزى خروجه من كل البطولات إلى السحر والجن والأعمال السفلية، ومشهد آخر يحكى عن وجود عفريت متحول من سلحفاة إلى إنسان ظهر على الطائرة الأمريكية وشاهدته الراكبة وهبطت الطائرة ولما تعد بعدها الراكبة ولا العفريت، ستجد أيضًا فتاة طيبة فى ليلة زفافها تُمسك الميكروفون وتشكر أباها صارخة على الملأ بفضله عليها، وستجد أيضًا علاجًا للقولون والمعدة والكبد والضعف الجنسى (أون لاين) وكل المطلوب أن تضغط على زر لتشترى علاجًا دون أى مراجعة طبية أو معلومة أو حتى زيارة للطبيب أو عمل تحاليل وأشعات!

إنه الطب السريع بعد أن ظهر قبله الطب البديل، معلومات تاريخية على فيديوهات بالجملة كلها خاطئة، فضلا عن وجود أخطاء نحوية وإملائية حتى فى الكلمات المكتوبة على الفيديو المصاحب للعرض، الكتابة يا سادة وليس النطق وحده، الجهل يتطور أيضًا مثل كل شىء ويستفيد من التقدم التكنولوجى بل ويسخره لخدمته، لقطات لنجوم يسيرون مع نمور داخل قصور فى بلاد عربية فلا نفهم ما علاقة النجم بالنمر بالقصر؟
إنها غالبًا صناعة النجاح البديل.

 

قديمًا كان النجاح أن يقدم الفنان عملًا فنيًا ناجحًا فيرفعه الجمهور إلى مكانة عالية فى قلوبهم، لكن ها هى التكنولوجيا تتيح نوعا آخر من النجاح لا علاقة له بما يقدمه الفنان من فن ولكن لها علاقة مباشرة بما يثيره الفنان من مشكلات وأزمات، وتلك المشكلات هى التى تزيد من أعداد المتابعين فيصبح ناجحًا جدًا ولكن فى إطار بعيد عن مهمته الحقيقية.

سخر الجهل التكنولوجيا لصالحه بكل غشم وجرأة وثبات وحقق تطورًا مذهلًا فى استخدام آليات صنعها الأذكياء وكأن الذكاء الذى هو سر وعظمة وجمال العقل البشرى صار يتعامل ويُستثمر فى كل شيء حتى فى الجهل نفسه.

ظهر جوجل وزاد عليه الذكاء الاصطناعى وظهر معهما نوع جديد عجيب مريب من(الثقافة)، وهى تلك الثقافة العرضية السطحية، سطح عريض لا نهائى تجد عليه كل معلومة فى الوجود تخطر على بالك، يستطيع أصغر طفل فى العالم أن يحصل على كم هائل من المعلومات التى لم يحصل عليها أينشتين ولا طه حسين ولا أحمد زويل ولا سارتر ولا نيتشة، لكنه لا يستطع أن يُدرك المعنى والقيمة الحقيقية لماهية الأشياء،

فقط ثقافة توافر المعلومة، سطح بلا عمق، سطح بحر أزرق لا حدود له لكنه بحر وهمى خال من الكائنات البحرية خال من اللؤلؤ والمرجان خال من عروسة البحر والأساطير، وخال أيضًا من العلوم والفلسفة، فقط معلومات متراصة سهلة المنال.

غاب المدرس والأب والأم والكتاب والملهم والقدوة وحل محلهم جميعًا السيد (جوجل) وباع الوهم واشتراه منه الجميع معتقدين أنه وهم مجانى مريح، ولكن الثمن الحقيقى كان ظهور أجيال سطحية تملك المعلومات ولا تملك العلم وصارت وسائل التواصل الاجتماعى فى خدمة الجميع، الجاهل قبل المتعلم والغبى قبل الذكى، والمتعصب العنصرى الطبقى المتطرف قبل الموضوعى الراقى البسيط المعتدل، تم تسليع الثقافة فصارت كمًا كبيرًا من المعلومات، وتم تسليع الفن فصار حروبًا واتهامات ومعارك وهمية لجلب أكبر عدد من المتابعين!

 العجيب ان هذا العدد الرهيب من المتابعين عند ساعة الاحتياج الحقيقى لهم لحظة نزول فيلم سينمائى مثلا لفنان يملك أكبر عدد من المتابعين لا يتحقق ذلك فى شباك التذاكر ويظهر الخذلان، فلو أن مليون متابع فقط من أصل ٣٠ و٤٠ و٥٠ و١٠٠ مليون كما يدعون.. مليون واحد فقط منهم شاهد لمعشوقه فيلمه السينمائى الذى قدمه لحقق إيرادات خرافية، المال والتكنولوجيا معًا فى خدمة ذوق متدن.

يحتاج المال إلى العلم ويحتاج العلم إلى المال، وكلاهما فى حاجة إلى المستهلك العادى، يتسابق أصحاب الأموال للحصول على رضا ذوق من لا يرضى أبدًا فلا تدرى من يعمل عند من؟ هل يعمل الفقراء عند الأغنياء من أجل الحصول على المال؟ أم أن الأمر على الحقيقة عكس ذلك، الأغنياء يشترون رضا الفقراء بمنتجات ترضى ما أتاحوا لهم هم من ذوق،

لكن الأمر لا يقف عند ذلك الحد بل يتطور حتى يُصبح الذوق المفضل لدى الفقراء بمرور الوقت هو الذوق الذى يثير فضول الأغنياء فتنتقل أغانى الفقراء ورقصاتهم وطريقة تعبيرهم عن الفرح والدهشة والحزن إلى قصور الأغنياء فتصدح أفراحهم بأغانى الفقراء، ويرتدون الجلابيب فى حفلات خاصة فلا تدرى أيا من الطبقتين انتصر على الآخر، ويدفع الأغنياء أموالا طائلة من أجل إعادة ضبط أجسادهم التى ترهلت بفعل الكسل والراحة والنعيم، فتنفق الأموال الطائلة على الجيم والعمليات الجراحية وعمليات التجميل، كل ذلك حتى يصبح نحيفًا نشيطًا مُعافى بينما الذى يخدمه يملك كل تلك المقومات دون أن يدفع قرشًا واحدًا إن نشاطه اليومى كفيل بخلق جسد صحى، هذا لا يعنى أبدا أن الفقراء فى نعيم والأغنياء فى شقاء فذلك تدليس غير مقبول، لكن يعنى أن الأمور ليست كما تبدو فى الظاهر دائمًا، هناك حراك وتفاعل دائم لا تدرى فيه أى ذوق سوف ينتصر؟ ومَْن يخدم مَْن؟ ومَْن يشترى بضاعة مَْن؟

لكن الثابت فى النهاية أن العلم والتكنولوجيا والمال ليست دائمًا فى خدمة الحق والخير والجمال بل تكون فى أحيان كثيرة فى خدمة الجهل والقبح والرجعية. ويظل الأمل موجودا فى أهل الجمال والعلم.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية