تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الخطاب الذى لم يصل!

مازال فيلم (البوسطجى) يجعلنى أقف أمامه مبهورا مُندهشًا من تلك البلاغة السينمائية التامة التى صنعها المخرج المصرى البارع حسين كمال عن قصة لأديب مصر الرشيق كتابة الأستاذ يحيى حقى، وحوار وسيناريو الرائع صبرى موسى، وأداء كوكبة من خيرة نجوم مصر، وتصوير أحمد خورشيد، فيلم من أفضل أفلام السينما المصرية!

والحكاية تدور مرة أخرى فى جنوب مصر، جنوب مصر الذى سبقه فى الحكى فيلم آخر بديع هو (دعاء الكروان) لـــ هنرى بركات، عن قصة عميد الأدب العربى طه حسين، هذان الفيلمان وثيقتان اجتماعيتان فى منتهى الأهمية، والعجيب أن كلًا من طه حسين ويحيى حقى لم يذهبا إلى الصعيد من باب (الأكلشيه) المعتاد المضمون جماهيريًا، وهو جريمة الثأر أو حكاية عن خُط الصعيد مثلًا، لكنهما ذهبا إلى أبعاد أكثر عُمقًا،

 الأول الأديب كفيف البصر بصير العقل أتى بالقصة من جذورها، فتاتان بلا أب يتاجر فيهما الخال، فتُقتل الأولى وتُدفن فى الصحراء لأنها فقدت شرفها، وتنجو الثانية من القتل على يد نفس الخال بعد أن يُفديها (الباشمهندس) بحياته، إنها قصة البنت فى جنوب البلاد حينما تُصبح تحت ضغط الفقر سلعة تباع وتشترى ثم تحاسب حسابًا عسيرًا على قلة وعيها واشتعال عاطفتها،

بينما يصل يحيى حقى فى (البوسطجي) إلى بُعد آخر رغم التشابه فى جريمة الشرف لكنها هنا جريمة كان يمكن تفاديها لو أن الخطاب المبعوث من المدينة كان قد وصل إلى القرية، الخطاب الذى كتبه العاشق يتعهد فيه بالزواج من محبوبته لم يصل، فقتل الأب فلذة كبده، إنها مشكلة الخطاب الغائب بكل ما تحمل من معان وتجليات متباينة، إنهما لغتان بلا مترجم، لغة التقاليد والأعراف فى مواجهة لغة الحب وغاب بينهما الفهم لغياب الترجمة، ويمكن أن يكون أيضًا غياب التواصل وغياب الخيط الواصل بين الوعى والعاطفة، وبين العاصمة والجنوب، وبين المدينة والقرية، يستطيع هنا فيلم (البوسطجى) أن يكون صرخة فنية موثقة، وتجليا فنيا رفيعا يحمل فى طياته مساحات لا نهائية من التأويل ويجعل المشاهد يفكر ويسأل ويُحلل ويتأمل ويصل إلى نتائج متعددة،

سينما تستند إلى حائط متين من الوعى والفن والثقافة وتقدم قصة خالدة تجعلنى بعد نهاية الفيلم على شاشة التليفزيون وبعد مشاهدته للمرة الخمسين، أظل مكانى مُتجمدًا أُمسك بالريموت كنترول، وترفض يدى أن تضغط على شاشة أخرى بحثًا عن فيلم جديد، لأنى فى حالة من الشجن والشحن والتفكير والإشباع الفنى كمتفرج، تُغنينى عن الكثير والكثير من أشباه الأفلام التى تجرى خلف القصص عديمة المعنى،

أُغلق التليفزيون وأبدأ فى البحث عن طه حسين ويحيى حقى وهنرى بركات وحسين كمال وفاتن حمامة وأحمد مظهر وشكرى سرحان وصلاح منصور، لأجد صلاح منصور يسير أمامى فى إيقاع عجيب بوجه مكلوم يحمل بين يديه ابنته زيزى مصطفى صامتًا يختلس لجثتها النظر فى خجل وحنان ثم يواصل طريقه ولا يرد على دهشتى، فأواصل طريقى مُحترمًا حزنه ليفاجئنى شكرى سرحان وهو يُخرج الخطابات ويمزقها فى وجهى ويلقى بها فى فضاء القرية الفقيرة الحزينة التى نفاها الزمن وحرمها القدر من الوصل والوصال، بينما يعلو صوت زيزى مصطفى القتيلة بجملة (مملكة تانى) ولا وجود لمملكة أخرى تتحمل حبها لحبيبها إلا فى العالم الآخر وحده، أحاول أن أهرب من تلك الكآبة الفنية الرهيفة، وأتجه إلى غرفة المكتب لأجد طه حسين مُبتسمًا خلف نظارته السوداء تلك الابتسامة التى نحتها الوعى والألم وهو يقرأ بصوته العذب ولغته الرصينة وإيقاعه المتمهل السطور الأولى من روايته (دعاء الكروان) وهو يصف علاقة الخادمة بمخدومها ويقول:

 

(لم يكن يقدِّر أنى سألقاه قائمة باسمة حين أقبل إليَّ فى ظلمة الليل يسعى كأنه الحيَّة أو كأنه اللص، ولكنه لم يكد يبلغ باب الغرفة ويتبين شخصى ماثلًا فى وسطها وعلى وجهه ابتسامة شاحبة كأنها ابتسامة الأشباح حتى أخذه شيء من الذعر، فتراجع خطوات ثم قال فى صوت أبيض جعل يأخذ صوته الطبيعى قليلًا قليلًا: ماذا! ألا تزالين ساهرة إلى الآن؟ أتعلمين متى أنت من الليل؟ قلت: لقد جاوزت ثلثه وما كان ينبغى لى أن أنام قبل أن ينام سيدى، فما يدرينى لعله يحتاج إلى شيء، قال وقد عاد إلى ثباته وهدوء نفسه واستردَّ صوته شيئًا من قحته المألوفة ودعابته البغيضة: ما رأيت قبلك خادمًا مثلك تحسن العناية بسيدها وتسهر منتظرة مقدمه) يختفى طه حسين ويحل محله هنرى بركات، أسأله مُندهشًا: كيف استطعت أيها المصرى الشبراوى المولد واللبنانى الأصل والفرنسى الثقافة أن تصنع فيلم (دعاء الكروان) وكأنك من أقصى جنوب مصر؟ لكنه ينظر لى فى تواضع خال تمامًا من كل صور (الأيجو) التى تصاحب عادة صُناع الأفلام ويتمتم: لم أصنع شيئًا، كان كل شيء مكتملا أمامى ولم أبذل إلا الجهد المعتاد، أتأمله طويلًا قبل أن يختفى ليحل محله حسين كمال بحضور مغاير تمامًا ، كان مفتونا بنفسه سعيدًا بإنجازه فخورًا إلى حد كبير، لكنه بادرنى قبل السؤال ضاحكا: لولا غيرتى من (دعاء الكروان) ما صنعت (البوسطجي).
كُنت وحيدًا فى تلك اللحظة فى غرفة المكتب والريموت مازال منسيًا فى يدى، وكل شيء ساكن من حولى وأنا أفكر فى رسائل هاتفى المحمول التى ربما لا تصل إلى أصحابها وتتسبب فى كارثة.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية