تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

مواجهة أبرهة العصر

تحملنا نفحات التدبر فى مشهد موسم الحج، إلى تذكر ما كان، عَلّ فيه بعض مداواةٍ لما هو كائن، وتلمسًا لامتلاك أسباب الإصلاح فى قادم ما يكون، ولهذا يُقدِم لنا (ابن كثير) مشهدًا حواريًا خلفيتُه أُمّةٌ مُفككة قبائل وعشائر، ومَلِك هو (أبرهة) لمملَكة تسيدت ثراءً وسلطانًا وحدودًا، حتى أسكرتْ سيادتها المَلِك، فقرر أن يبنى لهُ فى اليمن قِبلَة يحج الخلق إليها (القليس)، ولمَّا اكتشف أن (الكعبَة) تحول دون قبلَتِه المصنوعة، وأن كعبتَه قد استهان بها الناس حد أن أحدهم تبرز فيها، قرر هدم كعبة مكة!

وتحرك على رأس جيشٍ تتقدمُه أفيال لَم يشهد أهل الجزيرة العربية له مثيلًا، وحين شارَف على حدود مكة كانت القبائل قد اعتزمَت التسليم، وكان مِن بين كبار قادَة العرب (عبدالمطلب بن هاشم) جد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وحين دَخل على (أبرهة) أجلَّه وأكرمه حتى إنه نزل عن سريره فجلس معه على بساطه، ثم قال لمترجمه «اسأله حاجته»،

وكانت الإجابَة «حاجتى أن يرد على الملك مائتى بعير أصابها لي»،

إجابَة علَق عليها الملك
ـ «لقد كنت أعجبتنى حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتنى، أتكلمنى فى مائتى بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لأهدمه لا تكلمنى فيه؟!»،

لكن (عبدالمطلب) علَق «إنى أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه»

، لكن الملِك الذى أسكَره سلطانُه رد مُعتَدًا «ما كان ليمتنع مني»، وهو ما حمل ضيفَه لأن يؤكد «أنت وذاك» وانصرف عائدًا بإبلِه.

 

فى مشاهِد الواقع العربى والإسلامى الحالية واقعٌ مأزوم على خريطة عالم جديد يتشكل، واقعٌ يُحتِّم علينا تلمُس كلَ سبب للاستنهاض، فى مواجَهة كُل (أبرهَة) مُعاصِر لا يكترث بأوطانٍ ولا يُقيم وزنًا لإنسان،

وبعيدًا عن الجدليات الدينية والفكرية حول تقييم موقف (عبدالمطلب)، ما يعنينا هو قراءَة النموذج بداية من أبعادِه الشخصية التى جسّدها بمقولته وموقفه للموازَنة بين تحمل المسئولية الشخصية والتوكل على الله،
ليكون إدراك حدودنا كبشر ليس ضعفًا، بل قوة وحكمة،
تمكن من التعاطى مع كل أزمة عبر حلول تتوافق وما نستطيعهُ فعله، أخذًا بالأسباب بعدَه يكون التوكُل على الله.
ثم نموذج الإدارة العامَة للأزمات عبر كُل مفوض بإدارة، بما تفرضُه أمانَة لحظة أوطاننا المصيرية، لتتصدَّر الألوليات رعاية مسئولياتها الوطنية بدلاً من الغرق فى القضايا العامة أو الرمزية التى تُشتت الجهود، وتستنزف الموارد، وتُبقى الأمة فى حالة تراجع مستمر.

كان (عبدالمطلب) المواطِن المُدرِك لدوره ومسئوليته كراعٍ للإبل التى يملكها، مُتحررًا من الانفعالات ومركزًا على توجيه جهودِه نحو ما يمكن فعلُه، فلم يتخلَّ عن دوره الشخصى تاركًا ما يتجاوزه لربه، نموذجًا للتوازن بين العمل البشرى والثقة فى الله، لتكون رسالتُه لجيله ومن يخلُفه أن مواجهة الأزمات تتطلب وعيًا بالمسئوليات الفردية والجماعية، وأيضًا إيمانًا بأن هناك قوى عليا تحكم الأمور، رسالة تلهم الأفراد لتحمل مسئولياتهم دون خوف من النتائج التى لا يملكون السيطرة عليها.

كما يُقدِّم (عبدالمطلب) نموذجًا للمسئول يدعو كُل مكلفٍ بإدارة عامَة، لمواجَهة علَّة فقدان إدراك حدود المسئولية الوطنية، والانشغال بالقضايا الهامشية والعامة على حساب الأولويات الأساسية للدول والمجتمعات، استهلاكًا للخطابات والشعارات غير العملية، وإهمالًا للقضايا الحيوية التى تقع ضمن مسئوليات الإدارة المباشرة مثل التعليم، الاقتصاد، الصحة، بما يُشيع تراجعا فى القوة الوطنية بسبب عدم رعاية مصالح الشعوب وإهمالا للتنمية الداخلية - صناعة وتعليم وبحث علمى -، وهى المجالات التى تبنى القوة الحقيقية للأمم.

إن خُلاصَاتٍ مُعاصِرة لقراءة موقف (عبدالمطلب) مِن تحديات الوجود التى فرضها أبرهَة، تُمثل نموذجًا عمليًا لتجاوز حالة التردى التى تُحدق بنا، عبر حتمية مواجهتها عمليًا لا شعاراتيًا، بما يحقق عملًا مُنتجًا فاعلًا، ضمن حدود التأثير للدولة الراعية تعليمًا وصحةً وإرساءً للعدالة والاجتماعية ضمن منظومتها، وتجردًا من تُهم التواكل فى الإدارة لتتم عبر التخطيط والعمل الجاد بدل الاعتماد على الآخرين، وموازَنَة بين المحلى والعالمى بما يجعَل الأولوية لنهضة كل مكونات الداخل كونها الضامِنة لمواجهة كُل تحديات الخارج مهما تمادت مخاطر وتهديدات كُل (أبرهة).

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية