تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
عن أول حاكم مدنى للدولة الإسلامية
مِن مِنصة واقِعٍ يفرِضُ على أولى الألباب البحث عن سُبُل الإنقاذ، تحمِلنا أيادى التدَبُّر إلى الوقوف على عتبات ذكرى وفاة (أبوبكر الصديق) والتى تحل هذا الأسبوع، ومِن المُهم إعادة تقديمه للوعى العام الإنسانى والإسلامى باعتباره واحدًا من أهم القيادات الإنسانية على مرّ التاريخ، والمَسئول عن إدارة دفة التَحوُّل فى مَشهد القيادة من الحاكم الرسول الذى لا ينطق عن الهوى إلى الحاكم المَدنى القابل للمراجعة،
والمُثير للدهشة أن هذا التحول الذى أداره الصديق لم يتجاوز مداه الزمنى سبعة وعشرين شهرًا هى مُدة حكمِه، وهو ما يجعلنا فى مواجهة حالة إبداع إنسانى تجاوزت كُل تحديات فرضتها حالة ما بعد وفاة القائد المؤسس للدولة الإسلامية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهو إبداعٌ أنْبَتَهُ استيعابٌ لطبيعة الرسالة بطول صُحبته للرسول الكريم، ورعى الفهم ازدهارَه ليغدو نموذجًا لطبيعة القيادة من منظور إسلامى يُترجمه قول الصديق فى بيان ولايته «ولِّيت عليكم، ولستُ بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأتُ فقوِّمونى، القويُّ فيكم ضعيفٌ عندى حتى اخذ الحقَّ منه، والضعيفُ فيكم قويُّ عندى حتى اخذ له حقَّه»
ليُصبِح الحاكم المَدنى الأول فى الدولة الإسلامية والأوَّل فى مُحيط الواقع الإنسانى آن ذلك، الذى يُقِر ببشرية المنصب الذى تُنتجه إرادة جمعية للشعب مع ضمان حقه باعتباره صاحب السيادة فى رِقابَة منْ كُلف بالإدارة وتقييم أدائه بهدف التقويم حال الانحراف عن أهداف الدولة الاستراتيجية أو التطوير حال صحة المسير.
إنْ التأمُل فى مشهد إدارة أبى بكر للدولة خلال فترة حُكمِه، ينفى عن أصيل الفهم للرسالة الإسلامية كل ممارسات استبدادية مارسها حاكم باسم الدين، فأوَّل حاكم يخلف الحاكم الرسول المؤسس رغم انطلاقه نحو كُرسى الحكم من تكليف الرسول صلى الله عليه وسلم لأبى بكر بإمامة المسلمين للصلاة، إلا أنَّهُ وفور توليه مهام الحُكم يصنع بالتصريح فارقًا بين قُدسية الإمامة لأداء الشعيرة، وبين بشرية الإدارة للدولة القابلة للنقد والمُعارضة،
ويعتبر أن العدل والمساواة هما عمادا استقرار الدولة ودليلٌ نزاهة إدارتها، وأن المواطنة هى ضامنة الحق لصاحبها بغير تمييز،
وحين سأله وزيره عُمر بن الخطاب: أتسوى بين من هاجر الهجرتين، وصلَّى إلى القبلتين، وبين من أسلم عام الفتح؟،
كان ردُ الصديق حاسمًا: إنَّما عملوا لله، وإنَّما أجورهم على الله، وإنَّما الدُّنيا بلاغٌ للرَّاكب...
لتطوى الإنسانية بهذا الطرح عصورًا للاستبداد باسم الدين، وقسَمتْ الحكومات الحقوق على المواطنين استنادًا على معايير تمييزية وعنصرية، وبهكذا أسس لثبات الدولة وتطورها، استطاع الصديق أن يبنى لُحمة دولته المُجتَمعية بما ضمن لها تجاوز ارتباكات وفاة الرسول الحاكم المؤسس وما خَلفته صدمتها من فِتَنٍ أربكت الرأى العام ودعت الجماهير حينها إلى رفض الاعتراف بوفاة الرسول وسقط فى شراك الارتباك كبارٌ على رأسهم الفاروق عُمر حتى حسم الصديق الموقف بإعلان وفاة الرسول: أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبدالله فإن الله حى لا يموت.
ولا تُفارقنا ذكرى وفاة الصديق إلا وهى تذكرنا بأوَّل من صكْ للحروب قوانينها الإنسانية التى تحول بين شرف القتال ووحشية جرائم الحروب، حين وقف الصديق مُخاطبًا جيشه قادة وجندًا فى أولى المهام الحربية: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا، ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة، ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم فى الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له.
وهكذا سار الصديق فى فترة حكمه القصيرة، قاصدًا أن يُقدِم النموذج للقائد المدنى فى دولة تجاوزت وحشية عصرها مُتطلِعة إلى إعادة صياغة قواعد مدنية للحكم وللعلاقة بين الحاكم والمحكوم وصولًا حتى للعلاقة مع الأعداء والخصوم بما يقطع كل طريق على مُستثمرى الدين استبدادًا بالأوطان والإنسان، ويُمهد الدروب لأن يجتهد كلُ لاحق فى تطوير قواعد إدارة الدولة اعتمادًا على شعب يترجم قيمته كصاحب سيادة فى وطنه، بتكليف إدارة يراقبها ويقيمها ويقومها حتى لا تحيد عن ضمانات نزاهتها العدل والمساواة.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية