تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
صحفى يُحارب طواحين الذكاء الاصطناعى!
كما (دون كيخوت) أيامنا، يرتدى الصحفى دروعًا من ورق، ويمتطى جوادًا من حلوى صنعها واقع الكد، ليعلن الحرب على التهديد القادم، ذلك الوحش المسمى الذكاء الاصطناعى -AI-، وفى المقابل، يردد تابع الصحفى أو راعيه أن المستقبل محسوم لصحفى آلى.
هذا المدخل الساخر يقودنا سريعًا إلى نموذج واقعى من التغطيات الصحفية الرائجة، حيث ينتقل الحدث -أى حدث- إلى وسائل الإعلام عبر مقاطع قصيرة يلتقطها المواطنون بهواتفهم. كل منهم يروى الحكاية بطريقته، لكنها عند وصولها إلى المنصات الإخبارية تتحول إلى تغطيات متشابهة إلى حد التطابق، خالية من الصوت البشرى الحى، وكأنها نُسخت من بيان واحد. لم يكن هناك مراسل ميدانى، ولا تحقيق لاستقصاء الأسباب، ولا سؤال متخصص، ولا قراءة لتاريخ الحدث، ولا حتى رواية إنسانية. الحدث حاضر، لكن «العقل الصحفى» غائب.
هذه الفجوة تلخص –ربما - أكبر معضلة تواجه الصحافة اليوم فى مصر وخارجها: غياب دور العقل، لا غزو الآلة. فالذكاء الاصطناعى لم ينتزع الميدان من الصحفى، بل وجده خاليًا. لم يخطف الحكاية، بل وصل فوجدها مختزلة أصلاً فى سطرين. أصبح كثير من المحتوى قابلاً للاستبدال، ليس لأن الآلة عبقرية، بل لأن الإنتاج الصحفى أحيانًا يقتصر على نسخ أو تلخيص بيانات جاهزة.
على الجانب الآخر من العالم، عندما تندلع حرائق فى غابات كاليفورنيا، تخرج الصحف الأمريكية بكتيبة من المراسلين والمصورين والباحثين. يستقصون، يحللون، يروون، ويجمعون أصوات الضحايا. ثم يستخدمون الذكاء الاصطناعى لترتيب المعلومات، أو تحليل البيانات، أو بناء خرائط تفاعلية. هناك، العقل البشرى يقود والآلة تُساند. وهنا، نناقش خطر الاستبدال بينما أصل المهنة نفسه يمارس بإتقان.
من هذا المنطلق، يصبح السؤال ليس: هل سيُلغى الذكاء الاصطناعى الصحافة؟، بل: هل تُمارَس الصحافة بالشكل الذى يجعل استبدالها مستحيلًا؟، وهل تستغل العقول أدواتها كاملة، أم أن المؤسسات الإعلامية أخضعت الإبداع البشرى لقيود بيروقراطية، أو حصرته فى حيز التوظيف، فأصبح محتواه قابلًا للنسخ أو التكرار؟
جوهر الطرح هنا: الإعلام صناعة قائمة على العقل البشرى المبدع، الذى يستخدم كل الوسائط الحديثة والتقليدية لتحقيق تكامل فى إنتاج الرسالة الإعلامية. كل وسيلة -ورقية، تليفزيونية، مسموعة، أو إلكترونية- تسهم فى إيصال المعلومة بأسلوب يناسب طبيعة الوسيط وجمهوره. الذكاء الاصطناعى فى هذا الإطار ليس منافسًا، بل أداة دعم لتنظيم البيانات، وبناء الخرائط التفاعلية، واستقصاء المعلومات الثانوية، وتسريع الوصول إلى المصادر، دون أن يقلل من دور العقل البشرى.
المشهد المصرى الحالى يوضح أن الأزمة ليست فى التكنولوجيا، بل فى البيئة المهنية نفسها. ضعف المساحات الصحفية الميدانية، نقص الموارد، واعتماد المؤسسات على البيانات الجاهزة جعل الذكاء الاصطناعى يبدو تهديدًا، بينما الحقيقة أن العقل البشرى لم يُفعّل دوره كاملاً. حيث إن غرف الأخبار وحواضن الإنتاج الإعلامى تحدث الفارق عندما تُستَوعَب سياستها الإعلامية بوضوح، وتفعّل إنتاجاتها بتكامل بين الأدوات، فتصنع محتوىً إبداعيًا غير قابل للاستبدال، محتوى يحمل الضمير، ويخاطب الجمهور بصدق، ويخدم الوطن بتجرد.
فى النهاية، الذكاء الاصطناعى لا يستطيع استبدال الصحفى الذى يكتب التحقيق، ويلتقط المشهد الميدانى، ويجمع شهادات حية، ويحلل المعطيات فى سياقها الاجتماعى والسياسي. دوره محدود فى توسيع قدرات العقل البشرى، وتوفير الوقت والوسائل لتنفيذ ما يصنعه الصحفى من محتوى أصيل. الصحافة ليست آلات، لكنها عقول حرة تستخدم الآلات. وحين يُفعل العقل أدواته، يكون الضامن الحقيقى للإبداع المهنى، والموصل للرسالة الإعلامية الناجحة عبر كل الوسائط.
بهذا المفهوم، يتحول الحديث عن الذكاء الاصطناعى من تهديد إلى فرصة لتفعيل قدرات الصحفى، لإنتاج إعلام متكامل، حيّ، ومسئول. الإعلام فى جوهره عملية عقلية قبل أن يكون تقنية، وحين تُفعل العقول، تصبح الرسالة الإعلامية حيوية، والابتكار مستدامًا، والذكاء الاصطناعى داعمًا لا خصمًا، لتتكامل كل هذه الخطوات فى رحلة صناعة إعلام حقيقى ينبض بالحياة والإبداع، حينها يغزل الصحفى المصرى ضى صباح ينير. عسى أن يكون قريبا .. يارب.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية