تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > عبد العظيم حماد > من يفكر لمصر؟ من يفكر للعرب؟

من يفكر لمصر؟ من يفكر للعرب؟

للمؤرخ البريطانى العتيد المتخصص فى الشرق الأوسط، والذى بدأ مهنته مراسلا صحفيا جوالا فى المنطقة مقولة شديدة الوقع، وكاشفة للواقع، ورغم ذلك لا  ينتبه  لها أغلب قادة الفكر والسياسة فى المنطقة، أو ربما غلبت عليهم مصالحهم الضيقة، فنبذوها وراء ظهورهم، فى هذه المقولة يُرجع بيتر مانسفيلد  السبب الرئيسى لتخلف المنطقة، وفشل مشروعاتها النهضوية إلى نمط من تبديد التراكم الذى تصنعه حركة التاريخ، يتكرر مع كل تغير سياسى كبير أو صغير يحدث فى الإقليم، سواء كان التغيير من حاكم لآخر، أو من نظام إلى نظام مختلف، وسواء كان التغيير سلميا أو عنيفا.

 

والتراكم الذى يتبدد هنا ـــ أو بالأحرى يُبدد  بفعل فاعلين ليس فقط هو  التراكم الاقتصادى  والثروات والنظم الإنتاجية، ولكن أيضا التراكم  المؤسسي، وتراكم الخبرات الإدارية، والإصلاحات السياسية، والبحث العلمي، والمدارس الأكاديمية والفكرية، والإبداعات الثقافية والفنية الخ.

فإذا اتفقنا مع هذه المقولة، وأنا أتفق معها بالتأكيد، فلنتعرف على أحدث نوع من التراكم الذى تبدد، أو تسرب من بين أيدينا فى متاهات «الربيع العربي»، فمنذ  بداية النصف الثانى من القرن العشرين استحدث على مستوى العالم المتقدم مجال بالغ الأهمية اسمه الدراسات الإستراتيجية وبحوث الأمن القومي، وكانت مصر كعادتها، أو بحكم طبيعة دورها الريادى الراسخ آنذاكً هى السباقة بين الدول العربية إلى تبنى هذا الفرع من الدراسات المتخصصة، بفضل مؤسسة الأهرام، وبمبادرة المرحوم الأستاذ محمد حسنين هيكل.

بداية من إصدار مجلة السياسة الدولية كدورية فصلية محكمة، ثم تأسيس مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، عام 1972، والتى كانت نواته هى مركز الدراسات  الفلسطينية والصهيونية عام 1968.

 وقد اكتسب هذا المركز  بسرعة ملحوظة سمعة كبيرة وثقة مؤكدة لدى الدارسين المصريين والعرب، ولدى الرأى العام وصناع السياسات ومتخذى القرارات، وكانت قياداته من ذوى  القامات العلمية الرفيعة، فيما كانت كوادر الباحثين والخبراء من أنجب تلاميذ تلك القامات، وقد ظل المركز يمد القارئ العادي، والقارئ المتخصص، وكذلك الدوائر الرسمية بالمعلومات والتحليلات والأفكار، عبر النشر فى الصحيفة، وفى مجلة السياسة الدولية، ثم فى عدد كبير من السلاسل الشهرية، وكان أبرزها سلسلة مختارات إسرائيلية، وأخيرا وأكثر أهمية كانت التقارير السنوية الحافلة بالرصد والتحليل والتنبؤات والمقترحات، فمثلا من ينسى لقيادات وزملاء مركز دراسات الأهرام التقرير الاستراتيجى العربى السنوي، وتقرير الحالة الدينية فى مصر  السنوى أيضا.

وبسرعة أيضا حذت مؤسسات أهلية ورسمية فى مصر وبقية الدول العربية حذو مؤسسة الأهرام، خاصة فى الجامعات، حتى جاء وقت استحدثت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة وحدها ما يزيد على خمسة مراكز متخصصة، وتأسس مراكز مماثلة بجامعات الإسكندرية وعين شمس وأسيوط، وكان لكل  منها مؤتمر سنوي، وإصدار رئيسي، علاوة على الندوات الشهرية والموسمية، والبحوث والندوات المشتركة مع جهات دولية مرموقة، بل وتأسست مراكز مستقلة بجهود شخصية، او برعاية جهات متنوعة كمركز ابن خلدون، ومركز دراسات الشرق الأوسط (برئاسة المرحوم اللواء أحمد فخر). 

كما انتشرت مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية، ومنتديات الفكر السياسى والاجتماعى من مصر الى معظم الدول العربية، واكتسبت مؤسسة الدراسات الفلسطينية سمعة جيدة جدا، واستقطبت خبراء وباحثين ومفكرين على أعلى مستوى من خريجى الجامعات العربية والأوروبية والأمريكية، وكذلك  احتل مركز دراسات الوحدة العربية  فى بيروت  مكانة فريدة ومقدرة، وكانت مجلته الفصلية هى الأخرى مصدر تنوير وإشعاع بالغ التأثير، وأما معهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية فكان معملا  لتزويد تلك المراكز وغيرها  بالكوادر المؤهلة.

  بالعودة إلى مقولة بيتر مانسفيلد فسوف  نجد أنها انطبقت تمام الانطباق (بكل الأسى والتعجب) على مجال الفكر والبحث الاستراتيجى فى مصر وفى بقية الدول العربية فى العقد أو العقدين الأخيرين، فقد  ذهب بعضها مع الريح، وأقفر معظمها من التمويل، وتوقفت أغلب مشروعاتها البحثية، كما توقفت  بالتبعية أكثر إصداراتها، ولو عن طريق النشر الإلكتروني!!، 

ليس هذا فحسب ولكن  الرؤى الأمنية طغت  على  الحرية الأكاديمية، وعلى حريات النشر والحوار والتعبير إلى حد فرغ العمل البحثى والفكرى من مضمونه، أى بدد تراكم التراث والتقاليد والخبرات التى راكمها تاريخ  الدراسات الإستراتيجية فى عموم الدول العربية، وفقا لمقولة بيتر مانسفيلد، لتنتقل عملية البحث والتفكير الاستراتيجى لمستقبل المنطقة، وكذلك النشر والحوار إلى رعاية وتمويل واستضافة دولة الإمارات العربية والمملكة السعودية، ومعهما قطر أحيانا، علاوة على المراكز الأمريكية والإسرائيلية، التى تعمل بلا انقطاع ولاتبديد، والتى لاتتوانى عن طرح الفكرة وراء الفكرة، والمشروع بعد المشروع ليس فقط لترتيب مستقبلنا فى أرضنا وبلادنا، ولكن أيضا لإعادة تفسير تاريخنا، وربما تغيير فهمنا لذاتنا.

ربما يتساءل القارئ فى نهاية هذه السطور: وهل أجادت تلك المراكز  والبحوث والتقارير شيئا فى الماضى القريب، حتى نتحسر على فقدانها فى الحاضر، وفى المستقبل المنظور؟!

سؤال يبدو وجيها، ولكنه قاصر، فأن تخطئ بالرغم من معرفتك فستبقى هناك فرص للتصحيح، ولو بعد حين، وأما العكس فغير صحيح.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية