تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > عبد العظيم حماد > الممكن والمستحيل فى تطوير الصحافة المصرية

الممكن والمستحيل فى تطوير الصحافة المصرية

لا جديد فى القول إن البداية الصحيحة لعلاج أى حالة مرضية هى التشخيص الدقيق للمرض، ومثلما يعترف الطب والأطباء بأن هناك أمراضا عارضة وأخرى مزمنة، وثالثة مستعصية لايتوقع شفاؤها، فيجب على المعنيين بتطوير صحافتنا، وعلى أبناء المهنة أن يفرقوا بين العارض والمزمن والمستعصى فى أمراض المهنة ومؤسساتها وبنيتها القانونية، بحيث لايضيع الممكن فى طلب المستحيل، وبحيث لايشغلنا العارض عن المزمن.

 

المستحيل أو المستعصى حاليا - وإلى أجل غير منظور - هو تغيير صيغة ملكية الصحافة المسماة بالقومية، فهذه الصيغة هى أصل كل السلبيات، وهى التى أعاقت النمو الطبيعى الذاتى للمهنة، ولعلاقات العمل داخلها، كما عطلت إعمال معايير الفشل والنجاح، وحولت المؤسسات إلى شبه إقطاعيات لرؤسائها ورجالهم، وهى أيضا السبب فى ترسيخ وضعية التبعية السياسية للصحف للسلطة القائمة، والسبب فى الضغط السياسى والأمنى - بمعنى تحديد السقف - على الصحف الحزبية والمستقلة.

وإذن يكون المطلوب والممكن هنا تحسين الحالة قدر الإمكان، ليس لأن هذا هو الوضع الطبيعى أو الأمثل ولكن قياسا على مايفعله الطب فى الأمراض المستعصية،

ولكن كيف؟

للإجابة يستحسن استعراض مجريات تاريخنا الصحفى -إذا جاز هذا التعبير -منذ تملك السلطة للصحافة ومؤسساتها فى بدايات ستينيات القرن الماضي، فعلى الرغم من كل الضغوط السياسية والأمنية، وعلى الرغم من التأثير السلبى لصراعات أجنحة النظام الناصرى على المهنة وأبنائها، فقد حافظت الصحف والمجلات على مستوى معقول، ومتميز أحيانًا من الأداء المهني، واستقرت قواعد العلاقة مع السلطة على تجنب نقد الرئيس، أو النشر عنه إلا من المصادر الرسمية، وكذلك القوات المسلحة والمخابرات العامة بموجب القوانين، مع إباحة تناول كل ماعدا ذلك، بدءا من مجلس الوزراء ورئيسه، طبقا للقواعد المهنية، من حيث احترام القانون، ثم التحقق والاستقصاء وتجنب التحريض والابتزاز والتشهير، وكذلك الحذر من النشر المدفوع الثمن، أو الارتشاء بمعنى أوضح.

حقا كانت الظروف فى مصر وفى العالم كله أكثر ملاءمة للصحافة المكتوبة، فقد كانت الصحافة التليفزيونية لاتزال تحبو، بينما كانت الصحافة الإلكترونية فى منطوى الغيب، ولكن السبب الأصلى فى بقاء الصحافة المصرية صامدة دائما، وناجحة غالبا- رغم تأميمها - فكان هو أن قياداتها وكوادرها بعد التأميم ظلت هى قياداتها وكوادرها بعده، وكان أغلب هؤلاء قد مارسوا المهنة، واكتسبوا مهاراتها وتقاليدها فى العصر الليبرالي، وأهمها الحرص على احترام واجتذاب القارئ، ونقلوا هذه الخبرات والتقاليد إلى الجيل التالى لهم، وربما لجيل ثان بعده، وكان أبناء هذين الجيلين هم الذين استمرت على أيديهم الصحافة المصرية معقولة غالبا، متميزة أحيانا، وذلك بعد ان أطيح بجيل الأساتذة من مقاعد القيادة، بل إن أولئك الأساتذة ظلوا موجودين فى المؤسسات، وعلى الصفحات، إلا أقل القليل منهم.

كان سر نجاح الجيل الذى خلف الكبار أنهم تشربوا من أساتذتهم الخبرات والتقاليد المهنية، كما تشربوا منهم ومن التطورات الجديدة على الصحافة، بعد تأميمها مهارات وحدود التعامل مع السلطة والرقابة. وإذن فقد كان اختيار تلك القيادات الصحفية الجديدة يجمع مابين الكفاية المهنية والولاء السياسى الكامل، لكن الذى حدث بعد الإطاحة بجيل الوسط -كما كنا نسميه - هو التضحية بالكفاية المهنية لحساب الولاء السياسى الأعمي، وليس الكامل فحسب.

فأصبح لدينا رؤساء تحرير لايقرأون حتى صحفهم، وصار لدينا من يفاخر بأنه يكتب لقارئ واحد، وبالطبع كان أغلبهم لايعرف - ولا أقول يتقن - لغة أجنبية، وبالتالى لايقرأ صحيفة أو مجلة غير ناطقة بالعربية، فضلا عن أن يستطيع توجيه سؤال فى مؤتمر صحفي، أو أن يستقبل زائرا من خارج مصر والدول العربية.

إذن فالنصيحة التى أوجهها هنا هى الموازنة بين الولاء السياسى وبين الكفاية المهنية، وأضيف إليها ومن باب أن الشيء بالشيء يذكر عودة تقليد التدريب الصحفي، الذى اختفى تماما من مؤسساتنا منذ أربعين أو خمسين سنة تقريبا، والأهم من ذلك كله هو تقليل محاذير نشر المعلومات والآراء إلى حدها الأدني، الذى كان معمولا به فى الأطوار السابقة لدولة يوليو 1952، سواء بموجب العرف، أو بموجب القوانين، ليس لأن ذلك هو الوضع الأمثل، ولكن من باب أن تحسين الحالة، وتخفيف أعراض المزمن هو الممكن حاليا، ولأجل غير منظور، كما سبق القول.

من المفهوم أن مقالا واحد لن يحيط بكل مشكلات الصحافة مصرية، ولكنى أود أن أركز على ثلاث نقاط فى الختام:

الأولى هى اضطراب البنية القانونية الحاكمة لصناعة الصحافة والمؤسسات، إذ تشمل هذه البنية عددا كبيرا من القوانين، تبدأ بقانون العمل الفردي، وتشمل قانون نقابة الصحفيين وقانون الهيئة الوطنية للصحافة وقانونى المطبوعات والعقوبات، الخ، ومع ذلك فنحن لا نعرف مركزا قانونيا محددا للمؤسسات الصحفية! !
فهل هى شركات، أم هى مرفق عام، أم هى مؤسسات ذات طابع خاص؟ وكذلك فلايوجد مركز قانونى للصحفيين سوى المستند إلى قانون النقابة، فى حين أن الصحفى غير مخاطب من حيث الحقوق الوظيفية فى الأجر والترقيات وغيرها لا بقانون الخدمة المدنية، ولابقانون قطاع الأعمال العام، ولابقانون العمل الموحد، وقد كان يخضع فى الماضى القريب لقانون عقد العمل الفردي، مثله مثل العامل أو الموظف فى مخبز أو ورشة أو مصنع خاص.

وأما النقطة الثانية فهى الفساد والنهب اللذان خلطا الصحافة بالإعلان، واللذان أنزلا المؤسسات الغنية التى كنا نسميها -  مزاحا - مؤسسات الشمال إلى مستوى المؤسسات الفقيرة، أى مؤسسات الجنوب.

والنقطة الأخيرة هى عدم تطبيق قواعد المؤسسية فى الإدارة والتحرير من الأصل، أو تجاهل ماكان قد أوجده التطور منها فى بعض المؤسسات لتبقى سلطات التعيين والترقيات، وتحديد المهام والأجر والعلاوات والنشر والحجب مطلقة فى يد رؤساء التحرير ورؤساء مجالس الإدارات، وحتى فى الصحف الخاصة فلايوجد فصل مؤسسى بين الملكية والإدارة التحريرية والمالية إلا على الورق فقط. عودا على بدء فلا أطلب ولا أتوقع حل هذه المشكلات فورا، ولا دفعة واحدة، ولكن لنبدأ وفق خريطة طريق طويلة الأجل، وطويلة النَفَس.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية