تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

كلماتهم لا تصنع التاريخ

التاريخ تصنعه الشعوب على الأرض وليس عبر أوهام يروجها مجرمو الحرب والقادة الفاشلون. التاريخ ليس بيانا صحفيا يتلي، ولا كلمات مفعمة بالغطرسة والزهو يلقيها ترامب ونيتانياهو بالكنيست.

كان محمود درويش أكثر حكمة منهما عندما قال «لا تكتب التاريخ شعرا.. السلاح هو المؤرخ». وسلاح المقاومة الفلسطينية هو من صنع التاريخ، وتشبث أهالى غزة بأرضهم هو ما كتب ملحمة الصمود الأسطورية المدونة فى صفحاته. ترامب ونيتانياهو لن يكتبا التاريخ شعرا كما طلب درويش لكنهما يحاولان كتابته نثرا بخطابات تسكنها الأكاذيب.

 

إسرائيل وأمريكا لم تنتصرا فى غزة حتى لو دمرتا القطاع بالكامل وقتلتا الآلاف من الأبرياء. النصر كما يعرفه الدارسون لا يكون بإيقاع أكبر قدر من الخسائر بالعدو فقط، ولكن بتحقيق الأهداف الإستراتيجية وقد فشلتا فى ذلك.

لم تنتصر أمريكا فى فيتنام رغم أنها دمرت البلد بالكامل ثم انسحبت وتركتها للثوار. ولم تنتصر بأفغانستان رغم احتلالها 20 عاما قبل أن تفر منها وتستعيد طالبان حكمها. فى غزة فشلت مع حليفتها إسرائيل فى تحقيق الأهداف الرئيسية، وهى تدمير حماس تماما، والقضاء على بنيتها العسكرية والتنظيمية، وتحرير الأسرى بالقوة وتدمير الأنفاق، وتهجير الفلسطينيين.

هناك نصيحة قديمة يعرفها العسكريون تقول إذا لم تستطع حسم الحرب أوقف القتال وأعلن أنك انتصرت. وهذا ما فعله الحليفان.

وفى المرحلة الحالية سيحاولان تحقيق ما عجزا عن إنجازه بالقوة عبر عملية سياسية ظاهرها الرحمة بالفلسطينيين وباطنها العذاب لهم.

وقف إطلاق النار لن يكون فجرا تاريخيا لشرق أوسط جديد لمجرد أن ترامب حاول تسويق ذلك الأمل. خبرات التاريخ وسوابق إسرائيل لا تشجع على التفاؤل. لهذا السبب سيكون الفجر الذى تحدث عنه فجرا كاذبا.

هذه ليست دعوة للتشاؤم وليست محاولة للتقليل من الانجاز الذى تحقق فى شرم الشيخ والمفاوضات الماراثونية التى سبقت القمة وأسفرت عن اتفاق وقف النار. ما تم هو انجاز حقيقى لإنقاذ حياة الفلسطينيين ووقف الإبادة الجماعية ويستحق الاحتفاء والبهجة، لكنه لا يعنى الثقة فى إسرائيل.

ولن يعدم نيتانياهو اختلاق ذرائع وحجج لتبرير استئناف الإبادة رغم الاتفاق. ومادام الشيطان يكمن فى التفاصيل فلديه الكثير من التفاصيل الغامضة فى الاتفاق وفى خطة ترامب تكفى لعدة شياطين وليس شيطانا واحدا.

بعد أن ذهبت السكرة وجاءت الفكرة حان دور العقلاء والخبراء للتقييم الموضوعى والحديث عن اليوم التالى بعيدا عن مبالغات السياسيين وأكاذيبهم.

الآن يمكن أن نتبين ملامح الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر الحقيقى وليس فجر ترامب. لكن سندع مهمة استطلاع الأفق السياسى لشاهد من أهلها، أو على نحو أدق لشاهد من الجانبين الإسرائيلى والأمريكى للإدلاء بشهادتهما.

كلاهما على قدر كبير من الاطلاع والشهرة وكلاهما يبدى سعادته بوقف النار والإفراج عن الأسرى من الجانبين. لكن فرحتهما تقف عند هذا الحد فما سيحدث لاحقا يكتنفه الغموض وتظلله الغيوم السياسية القاتمة المنبعثة من أقبية الحكومة الإسرائيلية الغارقة فى ظلمات التطرف والعنصرية.

الخبير الأول هو البروفيسور الإسرائيلى «ايلان بابيه» وهو مؤرخ معروف وأستاذ الدراسات الفلسطينية بجامعة اكستر البريطانية وهو من الأصوات المعتدلة الداعمة للحقوق المشروعة للفلسطينيين. فى تصريحات إذاعية رفض «بابيه» بقوة حديث ترامب عن اللحظة التاريخية التى تعيشها المنطقة. قال نصا: «لسنا فى نهاية مرحلة فظيعة بل فى مرحلة تجسد محاولات حكومة إسرائيلية يمينية متعصبة لتقليص أعداد الفلسطينيين عبر التطهير العرقى بالضفة والإبادة فى غزة، «إسرائيل، والكلام مازال له، مستمرة فى اهانة الفلسطينيين وتجريدهم من إنسانيتهم. وتعتقد أن لديها الحق فى اجتثاثهم من الأرض كأمة وشعب ودولة.

يضيف: «هذه الحكومة هى تحالف بين سياسى انتهازى لا يعنيه سوى البقاء فى منصبه وسياسيين من الصهيونية الجديدة يؤمنون بأن الرب منحهم الفرصة أخيرا لإقامة إسرائيل الكبرى فى مناطق تمتد حتى خارج حدود فلسطين التاريخية، وهم لذلك يرون أن لديهم الحق فى إبادة شعبها».

لا يشعر «بابيه» بتفاؤل كبير لسبب محدد وهو أن نيتانياهو، الذى يصفه بالتهور، مقتنع تماما بأن الفرصة الوحيدة لبقائه فى الحكم هى مواصلة الحرب، سواء فى غزة أو الضفة أو لبنان أو إيران.

لا تختلف آراء «بابيه» الحادة كثيرا عما عبر عنه «ارون ديفيد ميلر» الخبير فى معهد كارنيجى الأمريكى والمحلل والمفاوض السابق حول الشرق الأوسط بالخارجية، وإن كان بحكم عمله يتحلى بقدر أكبر من الدبلوماسية.

فى تقرير نشره الأسبوع الماضى قال إن وقف النار ليس سلاما دائما كما حاول ترامب الإيحاء. وليس انتصارا كاملا كما وعد نيتانياهو. وطالما أن إسرائيل تواصل سياستها التوسعية بضم أراض بالضفة فإن الاتفاق لن يوفر إطارا يمكن الوثوق به لإنهاء الصراع. مبادرة ترامب كما يرى مليئة بالثغرات الكونية على حد وصفه وكل نقطة فيها تحتاج إلى مفاوضات مضنية.

والمبادرة كما يصفها تم تفصيلها لتلبية مطالب إسرائيل واحتياجاتها شأنها فى ذلك شأن سابقاتها من المبادرات الأمريكية. حتى الإشارة العابرة إلى الدولة الفلسطينية جاءت غامضة ودون أى التزام واضح.

أهم ما كتبه ميلر جاء فى آخر تقريره وهى نقطة لم يتطرق إليها احد وتتعلق بشخصية ترامب، الذى تستهويه المشاهد الاستعراضية وادعاء البطولة وصنع المعجزات. وهو سريع التقلب والملل ولا يقوى على التركيز فى مسألة واحدة لفترة طويلة. ومن ثم فلا يستبعد الكاتب أن يفتر اهتمامه بغزة ومشاكلها بعد أن يستتب وقف إطلاق النار وتنتظم المساعدات وبعد هدوء الاحتجاجات العالمية على الإبادة، ثم انطلاق مفاوضات المرحلة الثانية التى لا يعلم احد ولا يضمن متى تنتهي. عند ذلك سينصرف ترامب إلى مشكلة أخرى أهم من غزة.

سيبحث عن حرب جديدة يعلن إيقافها فى إخراج سينمائى مبهر. لا يهم أن يعالج أسبابها وجذورها أو يحقق العدل أو ينتصر للضعيف. الأهم هو تكريس صورته كصانع سلام يستحق جائزة نوبل. فإذا لم يحالفه الحظ العام الحالي، فأمامه ثلاث سنوات أخرى وسيظفر بها فى النهاية.

مرحبا بإشعال نيران حروب جديدة تنتظر ترامب لإطفائها.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية