تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
فلسفة الشر.. عن غزة نتحدث
مثل غيره من ملايين الأسوياء فى مشارق الأرض ومغاربها يشعر عالم الاجتماع الأمريكى ادوارد كورتين بالصدمة والألم، وهو يتابع أبشع جرائم العصر الحديث التى ترتكبها الولايات المتحدة والدول الغربية بأيدى الحلفاء الإسرائيليين فى غزة.
لا يتوقف كورتين أمام الأبعاد السياسية أو التاريخية للمأساة الفلسطينية، لكنه بحكم دراسته يبحث عن تفسيرات معقولة لهذا الشر الكامن فى النفس البشرية. كيف يمكن أن يتفق قادة العالم المتحضر على إبادة شعب كامل بلا رحمة؟.
من يفلت من قنابلهم سيسقط صريع الجوع الذى أصبح أداة حرب قذرة تستخدمها إسرائيل ضد الفلسطينيين للتخلص منهم بالقتل أو التهجير. أى نزعة شيطانية تسكن أرواح هؤلاء القادة الغربيين وأتباعهم فى إسرائيل؟ كيف تمتلئ نفوسهم بكل هذا الشر؟.
فى التراجيديا الإغريقية الشهيرة «اوديب ملكا» يرتكب هذا الشاب جريمتين بشعتين هما قتل والده والزواج من أمه. يفعل ذلك عن جهالة. لم يكن يعرف الحقيقة. فعل فعلته وهو غافل وبلا وعى ظنا أنه يفعل الصواب. وعندما تبين له الرشد من الغى لم يكن أمامه إلا أن يفقأ عينيه. لكن نيتانياهو وترامب كما يتوقع كورتين لن يفقأ أعينهما فهما يرتكبان جرائمهما عن سبق إصرار وترصد ولا يشعران بوخز الضمير الذى هز كيان اوديب.
فى محاولة لفهم هذا الشر المستطير يبحر كورتين فى عالم الفلسفة لعله يجد عند حكمائها تفسيرا منطقيا معقولا يريح نفسه المتعبة بفعل ما يراه يوميا من جرائم يندى لها الجبين. قبل أن يطرق أبوابهم طرح القضية فى صورة سؤال بسيط يردده أى مواطن عادى هو كيف يمكن لقائد سياسى أن يجلس مسترخيا فى مكتبه ويناقش مع مساعديه بهدوء أفضل السبل لذبح ملايين البشر.؟
وكباحث أكاديمى كان عليه اختيار عينة من هؤلاء القادة كدراسة حالة. وبالطبع وقع اختياره على نيتانياهو وترامب.
فى دراسته التى نشرها على الانترنت يوضح أن الرجلين يمثلان نموذجا كلاسيكيا لكل القادة الذين سبقوهما فى البلدين وليسا حالة استثنائية بصرف النظر عن الاختلافات السياسية التى تبقى شكلية ولا تمس الجوهر. سجل حقيقة أخرى هى أن النخبة السياسية الأمريكية من الحزبين هى فى الواقع مجموعة من الأشرار المؤيدين للإبادة الجماعية فى معظمهم شأنهم فى ذلك شأن النخبة الأوروبية.
قادته هذه الحقيقة إلى مرفأ الفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر الذى التمس لديه تفسيرا عن تناقضات البشر فى فلسفته الشهيرة حول ما يسميه سوء النية أو العقيدة الفاسدة أو الزيف الوجودي. وهو يقصد أن الإنسان يخدع نفسه عن وعى ويهرب من حريته ومسئوليته عن قراراته ومصيره بادعاء أنه مجرد شيء أو دور اجتماعي، وأنه غير مسئول عن سوء اختياراته، فليس أمامه بدائل أخرى.
هذا الخداع للذات هو ما تفعله النخبة الأوروبية والأمريكية عندما تتذرع بأكاذيب لتبرير دعمها للمذابح الإسرائيلية. وهى تقف على الجانب المظلم من التاريخ المناقض لكل القيم الإنسانية والأخلاقية التى تروج لها.
يستفيض العالم الأمريكى فى شرح فلسفة سارتر كتفسير يتجاوز تفاصيل الحدث إلى ما هو أعمق. لا مجال هنا لعرض ذلك كله، لكن من المهم الإشارة إلى مقولته «إن الناس الأكثر وعيا وإدراكا لا يمكن أن يكونوا أشرارا، لأن الشر يتطلب غباء ومحدودية فى التفكير.» يتفق كورتين معه فى الجزء الأخير فقط من عباراته عندما يتعلق الأمر بترامب ونيتانياهو والذين معهما. فلا شك أنهما يتصرفان بوعى وإدراك كاملين. وعندما يقلب فى دفاتر الحكيم والأديب الروسى ديستوفسكى يجد عبارة مشابهة هى أن الشر ينشأ من غياب الفهم والمحدودية فى التفكير، وهو ما يجزم كورتين أنه يتوافق مع طبيعة الاثنين.
قضية القدرات العقلية للقادة ليست جديدة، ولترامب نفسه تصريحات كثيرة يشكك فيها بقدرات غريمه السابق جو بايدن. ومن وجهة نظر الصحفى الأمريكى باترك لورانس فإن ترامب على صواب فى إثارة هذه المسألة لكن الموضوع يتجاوز حالة بايدن إلى مجمل الشئون الدولية التى لا يمكن فهم تطوراتها فهما صحيحا إلا بوضع الجوانب العقلية والعاطفية للقادة فى الاعتبار، سواء كانوا أخيارا أو أشرارا.
وبالنسبة لنيتانياهو (والحديث للصحفى الأمريكي) وبصرف النظر عن الشر الكامن فى الفكر الصهيونى الذى يعتنقه فهو شخصيا «كحالة» تظهر عليه كل أعراض الهوس العقلى حول فكرة معينة، وهو فى حالة خصومة مع الواقع وإنكار له.
لكن كورتين ينفى تماما فكرة المرض النفسى كتفسير لتصرفات نيتانياهو أو ترامب أو زمرتهما من السياسيين. لأنه لو صح ذلك لاستحقا التعاطف والعلاج وليس المحاكمة والعقاب. يرفض أيضا فكرة انفصال نيتانياهو عن الواقع فهو يعرف تماما ماذا يفعل ولأى غرض. وإجمالا يستبعد المرض النفسى كمبرر لتصرفات القادة الغربيين والإسرائيليين وإلا لكان ذلك بمنزلة صك براءة لكل الأشرار الآخرين عبر التاريخ. لكنه يطرح سؤاله مجددا فى حيرة صادقة عن طبيعة الشر الشيطانى الذى يمارسه قادة الدول بحق الشعوب؛ كيف كان هتلر يفكر عندما أباد ملايين اليهود؟ لماذا لم يبحث ترومان عن وسيلة أخرى لهزيمة اليابان بدلا من ضربها بالقنابل النووية؟ ما هى مشاعر بوش الابن عندما قرر قتل وإصابة وتشريد ملايين العراقيين فى حرب بمبررات كاذبة وهو يعلم ذلك؟.
كلهم اقترفوا هذه الجرائم عن وعي. سارتر وديستوفسكى مخطئان حتى أستاذهما سقراط جانبه الصواب عندما قال: «لا أحد يفعل الشر مختارا بل لأنه يجهل الخير». هذا غير صحيح أنهم يعرفون الخير بالتأكيد لكنه الشر الشيطانى الذى تحدث عنه نيتشه وشوبنهاور وغيرهما. إنه أعمق من المرض النفسى حتى إنه يتسلل إلى الروح ويتغلغل فيها. الشيطان الذى يحاول كورتين رسم ملامح شخصيته يبدو غبيا قصير القامة قبيحا، لكنه ماكر خبيث عظيم التأثير. وعندما يوظف إمكاناته تأتى العواقب بشعة هائلة مريعة فى صورة أفعال يقترفها هؤلاء الذين باعوا أرواحهم وضمائرهم له. ما أبشع جيراننا وأصدقاءنا؟!.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية