تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

صوت عاقل من واشنطن

عندما يضل العرب طريقهم فى الصحراء ويستوحشون ظلمتها أو تحاصرهم الأزمات فلا يجدون سبيلا للخروج منها، يستحضرون قول شاعرهم الكبير أبو فراس الحمدانى «فى الليلة الظلماء يفتقد البدر». يريدون أنهم فى حاجة لمن ينتشلهم من يأسهم ويخرجهم من ظلمات التيه إلى نور الهداية. لكن أبا فراس لم يكن تائها فى البيداء عندما قال حكمته. كان أسيرا فى سجون الروم. وكلماته تلك جاءت فى بيت شعر يقول فيه «سيذكرنى قومى إذا جد جدهم.. وفى الليلة الظلماء يفتقد البدر». كانت صرخة استغاثة بابن عمه القائد المغوار سيف الدولة الحمداني، فهو البدر الذى يفتقده فى ظلمة السجن وبغيره لن يرى نور الحرية. العرب أيضا يحتاجون إلى بدر يبدد عتمة ليلهم البهيم لكنهم أسوأ حالا من أبى فراس فليس لديهم سيف للدولة ولا درع.

 

دعك من العرب فقد أعلن نزار وفاتهم منذ سنوات ونعاهم فى قصيدة شهيرة. نتحدث عن أمريكا والدول الغربية التى هبت لمساندة إسرائيل ودعمها، وتعامت عن مجازرها البشعة بحق الفلسطينيين. هذه الدول أيضا فى حاجة لمن يبدد ظلمة قلوبها السوداء ونفوسها الخربة الغارقة فى مستنقعات الكراهية والتعصب والظلم. اسقط «طوفان الأقصى» مرة أخرى وليست أخيرة ورقة التوت التى توارى سوءات تعصبهم وعنصريتهم وازدواجية معاييرهم وازدرائهم للعرب واستباحتهم لدمائهم.

لكن أمريكا ليست فقط بايدن ورفاقه من النخبة السياسية الغارقة فى التعصب لإسرائيل والكراهية للعرب، المجتمع الأمريكي، كما الغربي، يموج بتيارات فكرية وسياسية مختلفة. وهناك من لا تنقصهم البصيرة والحكمة لكى يشاهدوا الصورة من جوانبها المختلفة دون أن تعميهم انحيازات سياسية أو توجهات فكرية أو مصالح انتخابية.

احد هؤلاء هو الدكتور ستيفن والت العالم السياسى المرموق وأستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، وهو شخصية معروفة للأكاديميين والسياسيين وسبق أن أثار ضجة كبيرة وغضبا عارما بين أصدقاء إسرائيل عندما نشر كتابه الشهير «اللوبى الإسرائيلى والسياسة الخارجية لأمريكا» والذى وضعه مع الدكتور جون ميرشايمر أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو. فى مقالة مهمة نشرها بمجلة فورين بوليسى المرموقة، بعد يومين فقط من عملية حماس وبدء الغارات الانتقامية الإسرائيلية، أكد الأستاذ الأمريكى أنه من المبكر معرفة ما ستنتهى إليه جولة القتال الحالية أو الخروج بنتائج، ومع ذلك يرصد نتيجتين مبدئيتين للمواجهة. الأولى أنها كشفت إفلاس السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الصراع الفلسطينى الإسرائيلي. ولا يجد حاجة للتطرق إلى تفاصيل فى هذا الشأن معتبرا أنه يكفى القول إن القادة الأمريكيين من نيكسون إلى اوباما كانت لديهم فرص عدة لإنهاء الصراع لكنهم فشلوا. لا ينكر أخطاء من يسميهم بالقادة غير الأكفاء من الجانبين الفلسطينى والإسرائيلي. ولا ينكر أيضا دور جماعات الضغط اليهودية التى قاومت تقديم أى تنازلات إسرائيلية. لكنه يرى أن تلك العوامل مجرد أعذار جزئية ولا تعفى أمريكا من المسئولية فلم تعمل كوسيط عادل وغير منحاز. يضيف أن الإدارات الديمقراطية والجمهورية المتعاقبة خضعت لضغوط اللوبى اليهودي، وضغطت على الفلسطينيين لتقديم تنازلات مرهقة، بينما قدمت لإسرائيل دعما غير مشروط.

وفى مقالته، التى نؤجل الإشارة لعنوانها لأنه يتضمن أهم الخلاصات التى انتهى إليها، يقول بالنص: «تعامت الإدارات عن جهود إسرائيل المستمرة لعقود لالتهام الأراضى التى يفترض أن تقام عليها الدولة الفلسطينية. والى اليوم تواصل سكب المال فى جعبتها والدفاع عنها فى المنظمات الدولية، ومع ذلك تعلن بإصرار التزامها بحل الدولتين». ولا يخفى الكاتب استغرابه وتهكمه من هذا التناقض.

كلمات الأستاذ الأمريكى قلما نسمعها من مسئولين عرب. يتابع: أمريكا أدانت هجمات حماس كالعادة واعتبرتها غير مبررة، متجاهلة عن عمد السياق الأوسع الذى جرت فيه، وكذلك السياسات الإسرائيلية التى تجعل الفلسطينيين يشعرون أنه ليس أمامهم خيار سوى اللجوء للقوة ردا على العنف الذى يتعرضون له بصوره روتينية. يقر «والت» بأن هجوم حماس غير مبرر من منظور قانونى محدود على أساس أن إسرائيل لم تكن بصدد مهاجمة غزة بما يبرر شن حماس ضربة وقائية. لكنه يتدارك بالتشديد على أن المنظور العام الأوسع يجعل هجمات الفلسطينيين مفهومة كرد فعل على الظروف التى يعيشونها. وبالطبع يدين مهاجمة حماس للمدنيين.

تستوقفنا أيضا عبارة بالغة القوة جاءت فى مقالته ننقلها بالنص: «لو كان المسئولون الأمريكيون أقل جبنا لتعين عليهم إدانة أعمال حماس وفى ذات الوقت شجب الأعمال الوحشية وغير القانونية التى تمارسها إسرائيل روتينيا ضد الفلسطينيين.. يفسر هذا لماذا فشلت جهود السلام الأمريكية، ولماذا لم يعد الكثير من شعوب العالم تنظر لأمريكا كقدوة أخلاقية».

النتيجة المبدئية الثانية التى كشفت عنها المواجهة، كما يرصدها «والت»، هى التذكير بحقيقة محزنة تفيد بأن القوة أهم من العدل فى النظام السياسى العالمي. إسرائيل ومنذ سنوات تتوسع فى الضفة الغربية، وحولت غزة لسجن مفتوح لأنها أقوى من الفلسطينيين، ولأنها تعاونت أو حيدت الدول التى يمكن أن تضغط عليها للتفاوض على حل سلمي، مؤكدا أن السلام لن يتحقق بالاتفاقيات الإبراهيمية مع العرب أو التطبيع مع السعودية. يعود «والت» فيؤكد أن هجوم حماس الناجح أثبت أن للقوة حدودا، وأن الدول تكسب أحيانا فى ميادين القتال لكنها تخسر سياسيا. أمريكا انتصرت عسكريا فى معاركها الكبيرة بأفغانستان وفيتنام لكنها خسرت الحربين وخرجت مهزومة. التفوق العسكرى الكاسح لإسرائيل لا يعنى أنها فى مأمن و«طوفان الأقصى» تذكير موجع لها بهذه الحقيقة. إسرائيل قد تكسب الجولة الحالية لكنها ستخسر الحرب فى النهاية وهى النتيجة الأهم التى يتنبأ بها لهذا اختارها عنوانا لمقالته.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية