تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > عاصم عبد الخالق > سوريا.. سيناريوهات المستقبل

سوريا.. سيناريوهات المستقبل

سقوط الأسد وفراره هو الحدث السعيد الوحيد فى قصة سوريا الحزينة. يحق للسوريين ومعهم ملايين المتعطشين للحرية والعاشقين لها والمدافعين عنها أن يبتهجوا بعد سنوات عجاف من الفقر والقهر والعذاب والخوف، لكن نقطة الضوء التى أحيت الأمل فى نفوسهم لا تكفى لتبديد ظلام الواقع أو تخفيف قسوته.

إذا كان بشار قد ذهب وانتهى للأبد حكم البعث الكريه الفاسد، فإن التركة الثقيلة التى تركها باقية. ربما كانت نشوة النصر وأهازيج الأفراح بالحرية العائدة تستأثر بالمشاعر وتطغى على أصوات أكثر هدوءا تتحدث عن حقائق أليمة وتحديات جسام تواجه سوريا وتهدد وجودها كدولة مستقلة ذات سيادة. لكن حتما ستذهب السكرة وتأتى الفكرة وهى للعلم حاضرة ومطروحة حتى قبل سقوط بشار.

الحكماء يدركون أن الحقيقة المرة أفضل من الوهم المريح. والحقيقة تقول إن الأسد الكبير والصغير تركا دولة مدمرة واقتصادا منهارا وشعبا أكثر من نصفه مشرد أو لاجئ فى المنافي. ومع ذلك ليست هذه أعظم كوارث الأمة. السوريون شعب متحضر ومبدع وقابل للتعلم والتطور وبمقدوره إعادة بناء بلاده أفضل مما كانت. الطامة الكبرى التى صنعها النظام السابق أو تسبب فى حدوثها هى تقسيم سوريا عمليا إلى دويلات متناحرة ومناطق محتلة. وهذه أم الكوارث.

سوريا ليست استثناء عربيا فى فصول هذه المأساة المعاصرة، وليست أول من يسقط أو على نحو أدق يتم إسقاطه فى مستنقع التقسيم، وللأسف لن تكون الأخيرة. التغييرات التى عصفت بالنظم الحاكمة فى بعض الدول العربية خلال السنوات الماضية أسفرت عن تمزيقها وتقسيمها فعليا دون إعلان رسمي. فى ليبيا نشب النزاع ومازال بين حكومتين إحداهما فى طرابلس والأخرى فى بنغازي. نفس المشهد بإخراج مختلف يتكرر فى اليمن حيث حكومة بالجنوب لا ولاية لها على الشمال الخاضع لسلطة أخرى مناوئة. الدول التى لم تشهد ربيعا عربيا تجرعت أيضا من نفس الكأس. فى العراق انتهى الغزو الأمريكى بتقسيم الدولة عمليا بانفصال الشمال الكردي، لكن باسم أكثر قبولا هو الحكم الذاتي، إلا أن الحقيقة أنه أصبحت هناك دولة كردية كاملة المقومات بأجهزتها التنفيذية والسياسية ومواردها الاقتصادية وقوانينها وقواتها العسكرية (البشمركة).

لم يبدأ وباء الانقسام وتفتيت الدول فى 2011 أو مع الغزو الأمريكى للعرق، بل قبل ذلك بسنوات طويلة. كانت الصومال أولى حبات العقد المنفرط عقب سقوط حكم سياد برى 1992 وانتهى احترابها الداخلى بانشقاق منطقة أطلقت على نفسها اسم جمهورية ارض الصومال. ثم جاء دور السودان وانفصل الجنوب 2011 ولا يبدو ذلك آخر أحزان الأشقاء، فهناك من لا يزال يعمل على قدم وساق لاستقطاع جزء أو أجزاء أخرى من الجسد المثخن بالجراح.

لم يحدث كل ذلك صدفة، أخطاء الداخل ومؤامرات ومخططات القوى الكبرى أفضت إلى هذه الكوارث التى لم تفلت منها سوريا وإن كان وضعها أصعب كثيرا من شقيقاتها بحكم وجود قوات أجنبية واحتلال استيطانى فى أراضيها. إسرائيل فى الجنوب، أمريكا فى الشرق، روسيا فى الغرب، تركيا فى الشمال. ولن يخرج احد منهم. كيف لسوريا الجديدة أن تحيا فى ظل هذا الحصار الداخلى الخانق. يزيد من صعوبة موقفها وجود تفاهمات مستقرة بين هذه القوى للحفاظ على وجودها دون صدام. ومن البديهى أنها اتفقت على التفاصيل عندما أبرمت صفقة الإطاحة بالأسد. من البديهى أيضا أنها ناقشت شكل ومستقبل الحكم البديل.

حتى الآن لا شيء معلنا بهذا الصدد لكن ليس من العسير استقراء ما سيحدث قياسا على السوابق وأقربها النموذج العراقي، حيث تتم كل الترتيبات الكبرى منذ الغزو إلى الآن بتوافق أمريكى إيراني. فى الحالة السورية سيكون التفاهم أمريكيا تركيا مع مراعاة مصالح ورغبات إسرائيل وروسيا. والأخيرة لا يعنيها سوى الاحتفاظ بقاعدتها الجوية فى حميميم، والبحرية فى طرطوس. ومن المؤكد أنها لم توافق على التخلى عن بشار إلا بعد تلقى ضمانات بعدم المساس بهما.

أما عن مستقبل الحكم فإن أسوأ السيناريوهات المطروحة هو الأفغانى وفيه يدب الخلاف بين رفاق الجهاد ويبدأ الاقتتال بينهم، وهو ما حدث بين المجاهدين الأفغان بعد التحرر من الاحتلال السوفيتي. من غير المستبعد أيضا سواء بقتال أو بدونه أن تختفى الوجوه الحالية التى تصدرت مشهد النصر لتظهر مكانها وجوه أخرى يجرى إعدادها أو تم إعدادها بالفعل وبانتظار لحظة الخروج للجمهور. يعزز فرص حدوث هذا الاحتمال صعوبة تصديق أن واشنطن وأصدقاءها وحلفاءها الغربيين والإقليميين يوافقون بالفعل على انتزاع الإسلاميين الحكم فى دمشق. من غير المستبعد أن يكون القبول بوجودهم تم على مضض بحكم أنهم كانوا القوة الوحيدة القادرة على التصدى لجيش بشار وسينتهى دورهم بانتهاء مهمتهم.

لا نقول إنهم أداة بأيدى أمريكا لكن لن يندهش احد عندما تسعى للتخلص منهم خاصة عندما تشرع فى إعداد الدستور الجديد لسوريا حتى لا يكون لهم دور فى صياغته كما فعلت فى العراق. وإذا أفلتت سوريا من السيناريو الليبى بوجود حكومتين متنازعتين، فإن الأرجح أن تتفق أمريكا وتركيا على تطبيق السيناريو العراقى بإقامة اتحاد فيدرالى يضمن للأكراد حكما ذاتيا واستقلالا عمليا فى الشرق والشمال الشرقى مع مراقبة تركية وضمانات بعدم تواصلهم مع حزب العمال الكردى التركي، مقابل أن تضمن أمريكا حمايتهم وهو ما يعنى ديمومة بقاء قواتها. أما الاحتلال الإسرائيلى فهو معضلة غير قابلة للحل على الأقل فى الجيل الحالي. الروس بدورهم لن يرحلوا ويفرطوا فى حلمهم التاريخى بالوجود فى المياه الدافئة. طرطوس هى سيفهم فى خاصرة الناتو الجنوبية وشريان الحياة لقواتهم فى إفريقيا.

سوريا الحبيبة تتألم وجراحها عميقة وعللها مزمنة. التخلص من نظام الأسد كان حلما جميلا تحقق بثمن باهظ. كان هذا النظام يردد (صادقا وهو كذوب) أن سوريا هى قلب العروبة النابض غير أنه تركها وهى قلب العروبة النازف. ندعو الله أن يضمد جراحها وأن تتنزل رحمته على أهلها الطيبين ولعنته على الأشرار الذى صنعوا مأساتها؛ الأب والابن وأصدقائهما وأعدائهما.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية