تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
العالم كما تريده أمريكا «1» الهيمنة
لا تريد أمريكا عالما جديدا مختلفا عن ذلك الذى صنعته بيدها وعلى عينها عقب خروجها منتصرة من الحرب العالمية الثانية. بعده رسمت أمريكا القوية المزدهرة ملامح العالم الذى تريده ولم يقاومها احد. ثم أعادت رسم ملامحه على هواها مرة أخرى وبدقة أكبر بعد انتصارها فى الحرب الباردة وانهيار إمبراطورية الشر السوفيتية. لم تتوقف عند هذا الحد فبعد سنوات رأت أن العالم أصبح يحتاج إلى تدخلات جراحية أخرى ليبلغ مستوى الكمال الذى يرضى طموحها ويخدم مصالحها المتعاظمة ونفوذها السرطانى. كان عليها أن تهيئ المسرح العالمى لمواجهة تحديات وتغيرات جديدة أهمها تحويل بوصلة العدو لاستبدال الأخضر بالأحمر، أى الخطر الإسلامى بدلا من التهديد الشيوعى. سنحت الفرصة التاريخية بوقوع هجمات 11 سبتمبر 2001 . ألقت أمريكا بكل ثقلها وعنفوانها فى حملة هستيرية محمومة لتشكيل عالم جديد لكن هذه المرة اعتمادا على القوة أولا وقبل أى شيء. وهكذا بدأت حربها العالمية ضد الإرهاب مكتسحة أفغانستان ثم العراق بينما غطت هجماتها الجوية والصاروخية عشرات الدول. أرست مبدأ الحرب الاستباقية أو الضربات الاجهاضية لمنع خطر محتمل حتى دون تفويض دولى. فعلت ذلك كثيرا قبل 11 سبتمبر لكنها بعده كانت القوة الوحيدة بلا منازع.
الآن تشعر أمريكا بالقلق فليس كل ما تتمناه تدركه. أصبح لديها عدوان كبيران وخطيران، وإن كانت وبسبب مواءمات دبلوماسية تسميهما منافسين أو خصمين، هما الصين وروسيا. لا تريد الدولتان الاستسلام لفكرة القوة العظمى الوحيدة، أو القيادة الأمريكية المنفردة للعالم. لديهما تصور آخر عن عالم متعدد الأقطاب يستوعب طموحاتهما ودورهما العالمى المتنامى. وعبر القوة العسكرية، فى حالة روسيا، والاستثمارات والمساعدات الاقتصادية، فى حالة الصين، تتمدد الدولتان وتتمردان على الهيمنة الأمريكية.
لا يمكن أن تسمح أمريكا بهذا التهديد ولن تقبله إلا أنها لا تستطيع إيقافه بسهولة. لا تتصور أن يصبح لها شريك فى القيادة يمكنه تحديد ملامح نظام عالمى جديد. عليها إذن إجراء جراحة رابعة لإعادة رسم ملامح عالم آخر على ضوء تلك المعطيات. لكن المشكلة أن أمريكا نفسها منقسمة من الداخل. يتنازعها اتجاهان متعارضان كل منهما يجذبها إلى طريق مختلف. اليمين المحافظ لا يرضى بأقل من الزعامة المنفردة المطلقة، ولا يدخر وسعا فى شيطنة الصين وروسيا والدعوة إلى استنزاف قوتهما وإضعافها حتى ولو باستدراجهما إلى حروب خارجية. يعتبر أن أمريكا لديها مهمة مقدسة لقيادة العالم وتخليصه من الديكتاتوريات القبيحة على شاكلة روسيا والصين.
فى المقابل يقف الليبراليون واليسار على الشاطئ الآخر، يرون أن التعاون وليس المواجهة هو ما تحتاجه أمريكا والعالم. وأن القيادة تكون بتحمل المسئولية وحفظ الأمن والاستقرار العالميين وليس باستنزاف المنافسين وخلق أزمات لإضاعفهم. يتمسكون بأن الصدام ليس حلا، والانعزالية والانكفاء على الداخل كما أراد ترامب سيدمر أمريكا ويقوض مصالحها.
ومع كل أزمة عالمية كبرى يتجدد الجدل بين التيارين، وتجد أمريكا نفسها فى مفترق طرق. يتفقون على أهمية القيادة وتعزيز قوة بلادهم ونفوذها ونشر نموذجها فى الحكم، إلا أنهم يختلفون حول وسائل تحقيق ذلك. وإذا كانت الهوة واسعة بين الاتجاهين فإن المسافة الفاصلة بينهما ليس مجرد فراغ بل تتفاعل فيها أفكار وأجنحة مختلفة تنتمى للتيارين أو تنفصل عنهما وتطرح اجتهاداتها التى توائم بين توجهات الفصيلين. ليس بوسعنا استعراض كل ذلك لكن يمكن اختيار نموذج من كلا الجانبين يعبر عن الرأى السائد فى معسكره.
فيما يتعلق باليمين عثرنا على ضالتنا فى تقرير نشره الكاتب والسياسى كليفورد ماى مؤسس ورئيس مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية والكاتب فى صحيفة واشنطن تايمز وكلتاهما تعبران عن اليمين المحافظ. يبلور ماى فلسفة أقطاب معسكره فى جملة بسيطة: «أمريكا يجب أن تقود وتشكل مستقبل العالم بمفردها وإذا لم تفعل ذلك سيفعله أعداؤها».
وعندما يتحدث عن هؤلاء الأعداء لا يتوقف طويلا أمام إيران أو كوريا الشمالية أو فنزويلا ولا حتى الإرهاب. كل ذلك مجرد صداع فى رأس أمريكا يمكن تحمله إلى حين والقضاء عليه عند اللزوم. الخطر الحقيقى والأكبر هو روسيا والصين ليس لقدراتهما النووية التى تمثل تهديدا وجوديا لأمريكا، ولكن لطموحاتهما وتمددهما عسكريا واقتصاديا بما يهدد مصالح ونفوذ أمريكا عالميا.
الهيمنة الأمريكية على العالم يجب أن تكون مطلقة وحاسمة وبلا تهديد أو تحد. كل الإمبراطوريات الكبرى فعلت ذلك عبر التاريخ، وكانت أيضا تستعبد أو تسحق الأمم الضعيفة والصغيرة، فما هو الجديد والغريب فيما تفعله أمريكا التى تجود بالخيرات على العالم عبر مساعدات وهبات بمليارات الدولارات. يقول التاريخ أيضا، كما يقرأه الكاتب الأمريكى، إن الإمبراطوريات الكبرى كانت تتعايش سلميا أحيانا وتصطدم فى أحيان أخرى، فلماذا يكون تصدى أمريكا لغريمتيها الروسية والصينية أمرا شاذا.. أليس ذلك سنة تاريخية مؤكدة؟.
الحروب أيضا، والكلام له، وضعت نهايات مأساوية للإمبراطوريات. الحرب العالمية الأولى انتهت بانهيار الإمبراطوريات العثمانية والألمانية والنمساوية المجرية. وحتى الروسية تهاوت بعدها وقام على أنقضاها الاتحاد السوفيتى. الحرب العالمية الثانية أدت لانهيار الرايخ الثالث «الألماني» والإمبراطوريتين اليابانية والايطالية. ولحقت بهما بعد سنوات قليلة باقى الإمبراطوريات الأوروبية وعلى رأسها البريطانية والفرنسية. أمريكا الآن بالمنطق التاريخى هى الإمبراطورية الوحيدة الباقية، ويجب أن تظل كذلك. أما المخاطر التى تواجهها بفعل صعود الصين وروسيا وسياساتهما العدوانية كما يصفها فهى لا تهددها وحدها وإنما تهدد العالم الحر كله.
لا يمكن لأمريكا التخلى عن قيادتها المنفردة للعالم، ولا عن هيمنتها على شئونه. ولن تترك فراغا تملؤه الدولتان الشريرتان. لو تهاونت ستكتسح روسيا أوروبا، وتتوغل الصين فى أسيا، وتنقض إيران على الشرق الأوسط. أمريكا لا تملك ترف الحياد ولا رفاهية الانعزال، وإلا سيكون مصيرها الانهيار.
هل هذا هو رأى أمريكا وموقفها النهائي؟ لا توجد إجابة محددة لأن أمريكا لم تحدد اتجاهها النهائى مازالت متذبذبة متأرجحة. يوجد معسكر مناوئ يتبنى رؤية مختلفة سنطرق أبوابه الأسبوع المقبل. هناك أمريكا أخرى نحتاج أن نعرف كيف تفكر.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية