تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

أرباح المتاجرين بالجوع

الأكذوبة الكبرى التى تجد دائما من يتحمس للترويج لها عن وعى أو جهل عند مناقشة أزمة الغذاء بالدول النامية هى أن أسبابها الرئيسية تنحصر فى تداعيات وباء كورونا، ثم الحرب الروسية الأوكرانية وما ترتب عليها من عقوبات على موسكو، وتوقف أو تراجع صادرات الحبوب من البلدين. الإصرار على ترديد هذه «الأسباب المعلبة» من شأنه توجيه اهتمام الرأى العام العالمى والحكومات والمؤسسات المحلية والإقليمية المعنية فى اتجاه آخر بعيد عن الأسباب الحقيقية، والى حد ما الخفية، التى تقف وراء أزمة نقص الطعام وانعدام الأمن الغذائى وصولا إلى المجاعة التى تهدد نحو 828 مليون إنسان وفقا لإحصائيات الأمم المتحدة.

 

هناك جريمة قتل أو شروع فيه يتعرض لها الملايين. وليس من الطبيعي، فى ظل ضخامة عدد الضحايا، أن يبقى الفاعل مجهولا. لذا لم يكن من العسير أن تحدده باحثة قديرة مثل الدكتورة انورادا شينوى أستاذة العلاقات الدولية بالجامعات الهندية، والتى وجهت أصابع الاتهام إلى أربعة أطراف أساسية مسئولة عن أزمة الغذاء بالجنوب العالمي، دون أن تنفى التهمة عن العناصر الأخرى التى اشرنا إليها وهى الحرب الأوكرانية وتداعياتها فضلا عن كورونا، لكن تبقى هذه الأسباب ثانوية رغم تركيز الإعلام عليها باعتبارها الأسباب الرئيسية لارتفاع أسعار الطعام ونقص المعروض منه.

قبل عرض الأسباب الأربعة تشير الباحثة أولا إلى أن العالم لم يواجه بسبب الحرب أو كورونا أزمة فى إنتاج الطعام الذى كان ومازال يكفى ويفيض عن حاجة استهلاك البشر على وجه الأرض. أما الأسعار فقد كان ارتفاعها سابقا على الحرب التى ساهمت بالطبع فى مزيد من الارتفاع اعتبارا من 2022. ورغم ذلك زاد الإنتاج العالمى خلال نفس الفترة، وكان يمكن أن يسد الفجوة فى المعروض التى خلقها توقف أو تراجع صادرات روسيا وأوكرانيا.

لكن مادام المعروض كان وفيرا فلماذا تفجرت الأزمة؟ هنا تضع شينوى يدها على أول وأخطر مكامن الخلل وهو الاحتكار الذى تمارسه الشركات العالمية الكبرى العاملة فى تجارة المحاصيل الزراعية والأسمدة. تشير فى بحثها القيم، الذى نشر فى مواقع غربية عدة قبل أيام، إلى أربع شركات تسيطر بمفردها على ما بين 70% إلى 90% من تجارة القمح العالمية، وتحصد أرباحا هائلة منذ اندلاع الحرب. المؤسف على حد تعبير اوليفر دى شوتر المقرر الخاص للأمم المتحدة حول الجوع، أنه كان بإمكان هذه الشركات منع حدوث أزمة نقص الطعام منذ البداية لكنها لم تفعل.

قبل الاسترسال فى عرض ما ذكرته الباحثة عن باقى أسباب الأزمة من المفيد إلقاء نظرة خاطفة على سجل الشركات الأربعة الديناصورية التى حددتها بالاسم دون ذكر أى تفاصيل عنها، لكن كان من السهل العثور على ذلك على مواقع البحث المختلفة. ثلاثة من هذه الشركات أمريكية وهى ارشير دانيل ميدلاند وتأسست 1902 ومقرها فى شيكاغو، وبلغت عائداتها فى 2022 نحو 85٫25 مليار دولار. الثانية هى بونجى المحدودة بولاية ميسورى وبلغت أرباحها فى 2022 نحو 67٫23 مليار دولار وتأسست 1818 فى هولندا. ثم كارجيل ومقرها بولاية مينيسوتا وعائداتها المسجلة العام الماضى 165 مليار دولار. الشركة الرابعة هى لويس دريرفوس وهى فرنسية لكنها مسجلة فى روتردام بهولندا وبلغت عائداتها فى 2018 نحو 36٫5 مليار دولار.

فيما يتعلق بشركات الأسمدة يلعب الاحتكار أيضا دورا أساسيا فى صنع أزمة الجوع والاتجار به. ما لم تقله الباحثة الهندية فى هذا الشأن ذكره تقريران مهمان الأول لمعهد سياسات الزراعة والتجارة الأمريكى ويشير إلى أن القفزات الضخمة فى أسعار الأسمدة خلال العامين الماضيين لم تفرق بين شمال غنى وجنوب فقير، وأن بلدان مجموعة العشرين أنفقت فى 2021 ضعف ما أنفقته فى 2020 لشراء الأسمدة، وثلاثة أضعاف ما أنفقته قبل ذلك بعام. فى الجنوب تضاعفت فاتورة مشتريات الأسمدة ثلاث مرات فى تسع دول نامية خلال 2022 مقارنة بعام 2020. ويوضح التقرير أن أرباح أكبر تسع شركات أسمدة بالعالم تجاوزت 57 مليار دولار فى 2022 وهذا يعنى أنها تضاعفت أربع مرات عما حققته فى العامين السابقين. لا تسأل بعد ذلك عن معاناة المزارعين الفقراء بالدول النامية.

التقرير الآخر أصدرته منظمة السلام الأخضر الدولية ويوضح أن أكبر 20 شركة متخصصة فى تجارة المحاصيل والأسمدة والأغذية وزعت أرباحا على مساهميها خلال 2021 و2021 بلغت 53٫5 مليار دولار. المفارقة المحزنة هنا هى أن هذا الرقم يتجاوز المبلغ الذى حددته الأمم المتحدة لإغاثة 230 مليون فقير بالعالم يعانون الجوع ويلزمهم بصورة عاجلة 51٫5 مليار دولار لإنقاذ حياتهم.

بالعودة إلى دراسة الباحثة الهندية نشير بإيجاز للأسباب الثلاثة الأخرى (بعد الاحتكار) المسئولة عن أزمة الغذاء، وهى المضاربات المالية ومساهمة أنشطة التعاقدات الآجلة فى بورصات السلع العالمية فى ارتفاع أسعار الحبوب وغيرها على نحو غير واقعي. السبب الثالث هو التوسع فى استخراج الوقود من المحاصيل المخصصة للغذاء وتحديدا الذرة خاصة فى أمريكا، فضلا عن استخدام فول الصويا كطعام للماشية. السبب الرابع هو طبيعة النظام التجارى السائد حيث يقفز الوسطاء عادة فى المساحة الفاصلة بين المنتجين والمستهلكين ما يؤدى إلى رفع الأسعار. توصى الباحثة بأن تحافظ الدول النامية على تقليدها القديم بالتعامل المباشر بين صغار المزارعين والمستهلكين من محدودى الدخل، وبحيث يلتقى الطرفان بالأسواق المحلية الصغيرة. أما عندما تسيطر الشركات العملاقة على الأسواق فهذا يعنى أن الإنتاج والتوزيع سيصبحان تحت رحمتها. وهنا يدفع الفقراء الثمن.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية