تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

نحن والغرب وإسرائيل «1»

تبدو العلاقة بين العالمين العربى الإسلامى، والغربى المسيحى إشكالية إلى أبعد مدى، أسيرة تناقض جذرى لا ينتج من حدة المغايرة بل من عمق الشعور بالغيرة.

والغيرة بالمعنى الحضارى نتاج لتشابه جوهرى، فالحضارتان العربية والغربية تصارعتا مرارا على قيادة المجال الاستراتيجى للبحر المتوسط، قبل اكتشاف الأمريكتين، واتصال الفضاء الأطلسى بالمتوسطى. والأهم أن الدينين المؤسسين للحضارتين يشتركان فى أصل واحد، يملكان أفقا عالميا، ويطمحان إلى تبشير الإنسان.

ومن ثم يمكن مقاربة تلك العلاقة من زاويتين نقيضين:

الزاوية الأولى تمجد التشابه، والناظر منها يرى حضارتين شقيقتين، اعتمدت كلتاهما، ولو بنسب مختلفة، على الوحى التوحيدى والتراث الإبراهيمى. وتغذتا معا على الفلسفة والعلوم اليونانيتين، وعلى تراث الشرق الأدنى، خصوصا المصرى، الضارب فى أعماق التاريخ. وقد بلغ التشابه حدا صار معه الانقسام الثقافى الراهن داخل العالم العربى بين تيارات تقليدية وأخرى حديثة، وما يصاحبه من اتهام التيارات التقليدية للنخب الحديثة بموالاة الغرب والتفريط فى أصالة الأمة، بمثابة تكرار للاتهامات التى كانت تدور على ألسنة الرجعيين الأوروبيين فى العصور الوسطى، والذين كانوا يتهمون النخبة الأكثر ثقافة وتذوقا للفنون والآداب العربية، خصوصا فى الأندلس، بالافتتان بالعرب والتفريط فى الهوية المسيحية، وكانت الكلمة الأكثر إفصاحا عن هذا الاتهام هى «الاستعراب» والتى توازى كلمة «التغريب» فى القاموس الراهن للتيار السلفى العربي.

أما الزاوية الثانية فتمجد التناقض، إذ يرى الناظر منها حضارتين متصارعتين على الهيمنة العالمية طيلة التاريخ المكتوب، حتى من قبل نزول المسيحية والإسلام. فعلى الجانب الشرقى كان ثمة حضارات وإمبراطوريات ودول كمصر وبابل وقرطاجنة وفارس ثم الخلافتان الأموية، والعباسية، وصولا إلى المغولية والعثمانية. وعلى الجانب الغربى ثمة الدولتان المينوية والإثينية، ثم الإمبراطوريات المقدونية والرومانية المقدسة، والبيزنطية، وحتى الإمبراطوريات الأوروبية الحديثة. وفى مقابل الهيمنة العربية على الجنوب الغربى الأوروبى، والتوسع العثمانى فى البلقان والشرق الأوروبى، نجد الهيمنة الرومانية ثم الصليبية على الشمال العربى، والاستعمار الأوروبى الحديث لمعظم أرجاء العالم الإسلامى.

الناظرون من الزاوية الأولى يستلهمون حكمة التاريخ، وهى أن الأديان الحق لا تتصادم، وأن الحضارات الحية لا تتصارع، وأن من يتصادموا ويتصارعوا هم كهنة الدين وسدنة السياسة، استغلالا لمخاوف الإنسان أو خضوعا لجشعه، حيث يوسوس شيطان السياسة لا الدين، ويعلو صوت الدولة لا الحضارة، داعيا إلى القهر أو الثأر.

ويرى هؤلاء أن محمدا قد أكمل عمل عيسى، واضعا العدالة بجانب المحبة، مثلما أضاف عيسى إلى عمل موسى واضعا الشريعة فى قالب الرحمة. وأن ابن رشد قد وقًّر أرسطو كما لم يوقره فيلسوف مسيحى، وأن أوروبا اللاتينية بادلته هذا التوقير بمثله، فاستدعته إلى نهضتها الحديثة. وكما قدم العرب لأوروبا القروسطية، عبر الترجمة والتعليق والإضافة، كل الأعمال الكبرى فى الفكر اليونانى، على نحو مكنها من اكتشاف جذورها، فإن أوروبا الحديثة قدمت للعرب بعض مكونات جذورهم التى كادت تستغلق عليهم لو لم يكن هناك أمثال «شامبليون» الذى منحهم أهم أبجدياتهم القديمة «الهيروغليفية» ليتعرَّفوا بها على أنفسهم، ويتعرف العالم عليهم. وفيما يعترف العقلاء، من على الشاطئ الغربى، بفضل علماء العرب والإسلام على الحضارة الإنسانية فى القرون الوسطى، فإن العقلاء على الشاطئ الإسلامى يقدرون لفلاسفة الغرب ريادتهم للنزعات العقلانية والإنسانية من ديكارت وحتى هابرماس، مرورا بالعظيم كانط. بل ويفسر هؤلاء ما دار بين الطرفين من حروب، باعتبارها ظاهرة طبيعية لم تكن أبدا غريبة على زمن تقليدى صاغته دوما قوة السيف، والقدرة على الكر والفر، لا يمكن تمييزها جوهريا عن تلك الحروب والصراعات التى مورست داخل كل مجال حضارى على حدة، كالغزو النورماندى لبريطانيا السكسونية، والقوطى لإسبانيا الكلتية، والجرمانى للإمبراطورية الرومانية المقدسة، أو حتى الحروب الدينية بين القرنين السادس والسابع عشر.

أما الناظرون من الزاوية الثانية فيحملون تصورات اختزالية عن الآخر. فعلى الشاطئ الغربى نجد تلك التصورات الأقنومية التى صاغها الشاعر الانجليزى روديارد كبلنج عن شرق أقنومى لا يتغير يواجه غربا أقنوميا مكتملا، حتى جعل من التناقض لاهوتا ثقافيا يقول: «الشرق شرق والغرب غرب.. ولن يلتقيان». ونجدها أيضا لدى كريستوفر داوسون الذى تحدث عن انفصال كامل بين الخيال الثقافى اليونانى المتمحور حول الفلسفة وبين الخيال الثقافى الإسلامى المرتكز إلى الدين، معتبرا أن محمدا - صلى الله عليه ومسلم - هو رد فعل الشرق الجذرى على تحدى العقل اليونانى وفتوحات الإسكندر المقدوني. ونجدها كذلك عند مستشرقين أوروبيين صاغوا تنميطات استعلائية عن شرقنا المسلم باعتباره «أسطوريا» و«استبداديا» و«غريزيا» فى مواجهة غرب اعتبروه «عالما» و«عقلانيا» و«واقعيا».

وقد استنتجت تلك التنميطات وقوع صدام حضارى وشيك بين العالمين. ورغم أن العقل الاستشراقى الأمريكى طالما نظر للعالم العربى الإسلامى كأقاليم فرعية، ضمن دراسات المناطق الإستراتيجية، فقد خرج هنتنجتون، ومعه برنارد لويس على ذلك التقليد، واستعادا لهذا العالم تماسكه، ولكن على قاعدة صراعية. وفى المقابل، نجد التصورات الاختزالية نفسها عند تيار سلفى عربى يرفض الحداثة، وقد ولد من رحمه تيار جهادى ينظر إلى الغرب المسيحى كدار حرب تواجه بالضرورة أرض الإسلام، ويراه متآمرا أبديا على أصالتنا المتفردة، يلتبس بصورة (إبليس)، التى أنتجها الخيال الدينى عن الشر المطلق، المحيط بقصة الخلق والوجود البشريين، والذى ينفق جل جهده ووقته فى إغواء الإنسان وجره إلى الهاوية.

شخصيا، انحزت دوما وتلقائيا إلى الزاوية الأولى، حتى جاءت حرب غزة بكل ما أحاط بها من ملابسات ومواقف تشى بأن الأمر ربما كان أكثر تعقيدا مما اعتقدت. للحديث بقية

salahmsalem@hotmail.com

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية