تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
عودة ترامب وأزمة الديمقراطية الليبرالية
لم تكن نازية الفوهرر فى ألمانيا، مهد الفلسفة المثالية والنزعة النقدية، ولا فاشية الدوتشى فى إيطاليا، مهد النهضة الأوروبية، استثناء فى التاريخ الإنسانى المكتوب بحروف الاستبداد والتسلط والقهر. ورغم ذلك بدا الشعور بوطأة النازية والفاشية عميقا ومأساويا على نحو استثنائى، إذ نبتتا من قلب الحداثة وبزغتا فى القرن العشرين، الذى لم يكن متصورا أن يُعاد فيه سحق الإنسان على نحو أفقد أوروبا جل حكمتها وثقتها بنفسها.
لقد جسد الرجلان فى حقبة ما بين الحربين (1922 ـ 1939)، ذروة العبث فى الاستبداد الحديث، المولود من رحم ديمقراطية إجرائية، تحترم النمط التمثيلى شكليا، لكنها ترتكز جوهريا على أكثر القيم رجعية كالتفوق العرقى، والسمو الجنسى، وغيرها من المقولات التى كانت أثيرة لدى فلسفة المركزية الأوروبية ثم صارت مع النازية والفاشية أسلحة فتاكة فى أيد عابثة، تجمع السلطة السياسية مع التطرف القومى مع الجنون الشخصى،
وهى الخلطة المدمرة التى تجسد فى حقل السياسة وصراعات السلطة ما تمثله القنبلة النووية فى المجال العسكرى وصراعاته المسلحة.
اليوم، منتصف العقد الثالث للقرن الحادى والعشرين، بعد ثمانية عقود من انتصارها على القومية العضوية كتحد بنيوى أفرز الفاشية والنازية، وثلاثة عقود من انتصارها على الشيوعية كتحد أيديولوجى، باتت الديمقراطية الليبرالية، فى نموذجها التمثيلى، تواجه تحديا جديدا وهو الشعبوية الزاحفة عليها من داخل جغرافيتها التقليدية (أمريكا وغرب أوروبا). والبادى لنا أن تلك الموجة الشعبوية وليدة تحول سوسيولوجى فى بنى المجتمع ما بعد الصناعى، أفضت إليه الثورة التكنولوجية، أخذت معطياته فى التراكم منذ الثمانينيات الماضية، حيث حل عصر الصورة بديلا لعصر الفكرة، وبات طلب السلطة والتنافس عليها يدور فى فلك الإغواء والإيهام والتحايل بديلا عن الخطابات الفكرية والأيديولوجية التى تنطوى على رؤية للعالم وتصورات للمستقبل.
مطلع القرن الحالى برز دور وسائط التواصل الاجتماعى التى امتصت الجدل الثقافى والسياسى فى أقنية العالم الافتراضى بديلا عن المنتديات الواقعية والقوالب التقليدية، وحل الفرد ككائن تواصلى نشط محل الحزب والمؤسسة والصحيفة، حيث بات الاجتماع السياسى والنشاط النقابى نادرا، وتراجع دور الصحف الكبرى ذات التأثير الحاسم، وباتت الندوات الثقافية القائمة على الحضور الجسدى إما نادرة الحدوث، أو نادرة الحضور، لا يزيد حضور أغلبها على عدد أصابع اليدين إلا على وجه الاستثناء، فطالما كان الشخص قادرا على إبداء رأيه وليس فقط سماع الآخرين، عبر شاشة تليفونه، فلماذا إذن يبذل جهده ووقته فى تلقى الخطابات الموضوعية؟.
لقد مات مؤلفو النصوص الفلسفية/ الأدبية/ الأيديولوجية إكلينيكيا، ليصعد القارئ على أجسادهم. تراجع حضور القادة الملهمين وتقدم البشر العاديون فى عصر الجماهير الغفيرة، التى لا تكترث سوى باللحظة واللقطة، فصارت المشهدية هى السيدة والسائدة، وأصبح العالم معرضا لأفكار مسطحة تقاس بحاصل ضرب طولها فى عرضها دون نظر إلى عمقها، محض ساحة صاخبة لمعارك وصراعات لا رابط بينها، غامت جذورها الحقيقية، حيث الفاعل فى جمهورية التواصل الاجتماعى لا يبحث عن جذور القضايا المثارة ولا يرهق نفسه بالأسئلة الصعبة حول عدالتها وإنسانيتها بل يطلب حلولا بسيطة لها، تتوافق مع وعيه الاختزالى، اللهم فيما ندر.
هذا هو الواقع الذى أجاد السيد دونالد ترامب فى توظيفه قبل ثمانية أعوام، ليصبح أقوى رجل فى العالم من خلال مواقف شعبوية عبر عنها بأكثر الطرق درامية واستفزازا.
تخيلنا أن استفزازيتها سوف تهزمه منذ البداية، فإذا بدراميتها تنتصر له فى النهاية. وفى ممارسته الفعلية للسلطة كان الرجل وفيا لكل وعوده، التى صاغ معظمها انطلاقا من وعى غريزى يقوم بأفعال شرطية تنتمى إلى عالم الذهن بأكثر مما تنتمى إلى عالم العقل، ويتجاوز كل ما هو رمزى وأخلاقى، طالما كان ذلك ممكنا لا تحول دونه قوة صلبة تحرمه من منفعة شخصية أو تعاقبه على مسالكه،
فالرجل يصرح بما يفكر فيه، ويقول ما يريده، ويفعل ما يقوله، ويمارس مغامراته غير المحسوبة على كل الأصعدة، فيما يتعين على الآخرين ممن لديهم حس أخلاقى بالمسئولية عن عالمهم، أن يعملوا كرجال مطافئ للحرائق التى يشعلها.
وبعد هزيمة مدوية نالها قبل أربع سنوات، قضاها فى محاكمات لا تنتهى على قضايا مختلفة من قبيل التحريض على اقتحام الكونجرس، والتهرب الضريبى، والتحرش الجنسى، إذا بالرجل يفاجئ العالم بالعودة إلى سدة الرئاسة فى البيت الأبيض، لتتجدد المخاوف بشأن احتمال إعادة البشرية إلى حالة الطبيعة الأولى، تلك التى كان الفيلسوف الإنجليزى توماس هوبز قد أجاد فى وصفها باعتبارها همجية، يبدو فيها الإنسان ذئبا حتميا لأخيه الإنسان، والعلاقة بين الجماعات والدول مجرد انعكاس لقوانين الغابات الاستوائية الكبرى.
قبيل الانتخابات مباشرة عبر البعض عن مخاوفهم إزاء احتمال هزيمة ترامب فيها، مع عدم انصياعه لنتائجها، والقيام بتحريض أنصاره ضدها، ما يضغط من جديد وبقوة على مؤسسات الدولة الفيدرالية، ويثير مخاطر الاستقطاب المجتمعى وربما الحرب الأهلية.
وعقب فوزه مباشرة عبر البعض الآخر عن خشيتهم من محاولته تعديل الدستور للاستمرار فى السلطة زمنا أطول عن الطبيعى والمعتاد. وهكذا بلغت الديمقراطية الليبرالية حدا لا مسبوقا من الإرهاق أثار الشكوك فى مستقبلها، فلم تعد كما كانت قبل ربع القرن أيقونة يُنظر إليها باعتبارها المحطة الأخيرة على طريق التطور التاريخى، والنموذج الأكثر رشدا فى إدارة التنوع البشرى.
salahmsalem@hotmail.com
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية