تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > صلاح سالم > جنوب إفريقيا والإرث العظيم

جنوب إفريقيا والإرث العظيم

فى سجنه الطويل والمرير قرأ مانديلا كثيرا عن الحياة والإنسان والتاريخ. لكن ما ميزه عن الآخرين هو عمق إيمانه بما عرف، وتكريس حياته فى خدمة إيمانه. أدرك يقينا وباكرا، بأن للأفكار دورة حياة لابد أن تكملها، وأن الرد العنيف على فكرة متطرفة لا يزيل تطرفها بل يصنع فكرة أكثر تطرفا منها، فلا سلام حتى تتنازل كل فكرة عن غرورها، ليجرى التصالح بينهما. ولذا فإن أكبر ميزات الرجل العظيم لم تكن فقط قلبه النبيل، بل عقله الرحيب الخالي. لم يسع قط للانتقام من مضطهديه، بل أحب سجانه الذى كان يمرر له الكتب، فقط الكتب، خصوصا أعمال وليم شكسبير.

وعندما تُوج مانديلا كفاحه بالخلاص من القهر والعنصرية مع الجلوس فى سدة الحكم، كانت التجربة الأصعب فى حياته: فإن تحكم بالعدل تكن إنسانا عظيما، أما أن تعدل مع جلاديك وتصفح عن ظالميك، فأنت بالضرورة أكبر من مجرد إنسان، ولهذا كان جهاد الرجل لنفسه، لألمه وغضبه، جهادا مريرا، استحق معه أن يكون أحد أبطال الإنسانية.

كان قائدا لحزب شيوعى عندما دخل السجن للمرة الأولى عام 1962، ولكنه ظل مسيحيا طيبا ينعم بكل طاقات الحب وملكات التسامح. لم يتوان يوما عن إبداء تعاطفه مع الفلسطينيين توءم بلاده فى معاناة العنصرية والتمييز، ولا عن إبداء احترامه لناصر، قائد تحرير إفريقيا. كان ذا ميول اشتراكية، ولأنه يدافع عن شعب بائس، يعانى شظف العيش ضد أقلية بيضاء تمتلك جل الثروة، كان الأسهل له تأميم كل شيء، وتسخير أدوات الدولة للقصاص من تلك الأقلية، لكنه لم يفعل بل قدم دعما لرجال الأعمال الأثرياء طالبا منهم بأن يتعاملوا مع العمال السود بعدالة، وبأن يسهموا فى النهوض باقتصاد البلاد، فهكذا تحل المشكلة تدريجيا بدلا من الدخول فى فلك نزعات الثأر والانتقام. لم يكره مانديلا منتديات البيض ورموزهم، وعلى رأسها فريق الرجبى، اللعبة الأكثر شعبية فى البلاد، والتى لم يكن يمارسها غير البيض، بل تصالح مع ذلك الرمز مطالبا بتنظيم بطولة العالم فى بلاده، قبل أن يفاجئ الجميع بحضوره أولى مباريات المنتخب ولعب ضربة البداية، فى مشهد لا أظن أن البيض سوف ينسونه أبدا، حيث قدم المظلوم، وهو فى عز قوته وأوج مجده، قربان المصالحة لظالمه، ولذا رثاه أسقف جنوب إفريقيا الأكبر ديزموند توتو فى حفل تأبينه قائلا:علمنا كيف نعيش معا.. أن نؤمن بأنفسنا ونؤمن بالآخرين كذلك.

كان الفيلسوف أفلاطون قد نظر بعين الريبة إلى الإنسان العادى، وأبدى تشككا فى قيمة الإرادة العامة للجماهير (الديمقراطية) معتبرا أن الحاكم الوحيد الذى يصلح لمدينته الفاضلة هو ذلك الرجل الحكيم (الفيلسوف) الذى يمكنه إدراك مواقع الفضيلة والتحرك نحوها ووضع نفسه فى خدمتها. لكن، وعبر عصور طويلة ظلت مدينة أفلاطون خارج هذا العالم، ولم يحكم الفيلسوف أبدا، فإذا ما تصادف ومارس الحكم لم يعد فيلسوفا، لأن للحكم مقتضياته، هكذا قال الحكيم الصينى كونفوشيوس لتلاميذه الذين انتشروا فى مرافق الإمبراطورية وصنعوا شخصيتها قرونا طوالا. وهكذا أكد مكيافيللى، وهوبز وهيجل وغيرهم من مفكرين فصلوا السياسة عن الأخلاق وصبغوها بالأنانية والدنيوية والشمولية. وحده مانديلا، حقق الحلم الأفلاطونى، حيث صار الحكيم حاكما، ناضل لأجل العدالة وثار على الظلم من دون كراهية للظالمين خشية أن ترتد الكراهية بآثارها على المظلومين. لقد أدرك الرجل، وهذا سر عبقريته، أن الحياة تتسع للجميع، وأن الكراهية مميتة للجميع، وأن الانتقام الحقيقى من ماض قبيح هو صناعة مستقبل أجمل، أكثر عدلا وأوسع أملا. ففى خطاب تتويجه رئيسا نهاية القرن العشرين (1994م)، أعلن تسامحه مع من طردوه من فضاء الحرية وأوثقوه بالأغلال، وهو ما لا يتأتى إلا من روح عظيمة، تلهمها مثل عليا وتغذيها أفكار كبرى، تدرك أن الظلم متاهة الظالم لا المظلوم، وأن الثأر متاهة المظلوم لا الظالم، وأن العدل والحق، كالخير والحب، ساحة واسعة لأمل صادق ويقين دائم، يسعان الجميع.

هذا هو الإرث الكبير الذى دفع دولة جنوب إفريقيا لمقاضاة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، بتهمة الإبادة الجماعية لأهل غزة، وذلك فى لحظة استأسد فيها الظلم وخفت صوت العدل، حيث الأقوياء سادرون فى الغى، لا تكاد ضمائرهم تستفيق إلا لمحة، والآخرون من ذوى القربى يتلعثمون فى لغة الخوف، لا تكاد تخرج الحروف من أفواههم إلا عنوة. فيما كان صوت الرئيس الجنوب إفريقى سيريل رامافوزا يردد بلغة إنسانية سامقة: لن تكتمل حريتنا إلا بتحرر فلسطين. وكان فريقه القانونى الرائع يقدم فى أربع وثمانين صفحة، فضلا عن فيديوهات عديدة مصورة، ما يثبت وقائع جريمة الإبادة بركنيها المادى والمعنوى، والتى عرفتها اتفاقية روما 1948م، بـالتدمير الإرادى والقتل العمدى لجماعة بشرية على أساس عرقى أو دينى، فى حق إسرائيل، حيث المذابح الهائلة للمدنيين، خصوصا النساء والأطفال، مع النية والقصد المعلنين على ألسنة المسئولين السياسيين والقادة العسكريين، والظاهرين فى سلوك القادة الميدانيين والجنود المقاتلين، الذين طالما احتفلوا بقدرتهم على التدمير والقتل، وأبدوا الشماتة فى الضحايا المغدورين والمنكوبين.

كان الحادى عشر من يناير، بغض النظر عما يليه، تاريخا كاشفا لنمطين نقيضين من الروح الإنسانية. فثمة أرواح سوية، تعانى الظلم فتكره مذاقه لنفسها وغيرها، تكرس جهدها للقضاء عليه انتصار لحرية الإنسان التى لا تقسيم فيها ولا تمييز. وثمة أرواح مراوغة، تعانى الظلم فتتاجر به، تجعل منه سيفا تضعه على رقبة غيرها من المقهورين، ليتناسل الظلم دونما اعتبار لحكمة التاريخ أو صوت الضمير.

salahmsalem@hotmail.com

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية