تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
انحطاط أمريكا
فى كتابه (النبوءات) تصور كريستوفر كولومبس أن اكتشاف أمريكا هو بداية مسيرة الخلاص باعتناق الوثنيين للمسيحية، والقضاء على المسيح الدجال. وعندما بلغ شواطئها اعتقد أنه قارب الفردوس الأرضى، وأن التيارات المائية العذبة التى صادفها هناك إنما تنبع من الأنهار الأربعة التى تروى جنة عدن.
أما المستعمرون الانجليز فاعتبروا أنفسهم مصطفين لبناء (مدينة على جبل) تكون بمثابة مثل يُحتذى لأوروبا، يتجاوز آفات الاضطهاد والعبودية فى مجتمعاتها الإقطاعية. بل إنهم رأوا فى بقاء أمريكا محجوبة عن أوروبا حتى زمن الإصلاح الدينى آية من آيات العناية الإلهية، كى تبدأ الحياة فيها من أرقى نقطة وصل إليها الأوروبيون.
ومع إعلان الاستقلال الأمريكى، تحدث الرئيس المؤسس جورج واشنطن عن الولايات المتحدة كبلد قادته يد الله. أما خليفته جون آدمز فعبر، فى سيرته الذاتية، عن اعتقاده بأن تأسيس أمريكا ليس إلا المشيئة الإلهية لتعليم وتحرير قطاع كبير من البشرية لا يزال خاضعا للرق.
غير أن مسيرة حياة أمريكا، للمفارقة، سوف تولد من رحم القمع والعبودية، حسب المؤرخ الأمريكى الراحل هوارد زن، وتتمدد فوق رقاب الهنود الحمر وعلى أجساد الأفارقة السمر. كان الهنود شديدى المحبة والتسامح فى تعاملهم مع المستكشفين الأوائل، يستقبلونهم بترحاب ويدلونهم على ما يملكونه من الحبوب والذهب، ولا يترددون فى اقتسامه معهم، لكن الضيوف استداروا إليهم بالسيوف قتلا وإبادة. أما السود فكانوا الأسوأ حظا، جلبهم من إفريقيا وسطاء وسماسرة محترفون على سفن رثة، أوصلت منهم خمسة عشر مليونا وأغرقت أضعافهم.
أخيرا ولدت أمريكا كدولة، على الشاطئ الشمالى الشرقى للأطلسى، لكنها استمرت فى التوسع السياسى والصعود الاقتصادى طيلة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر داخل القارة الأمريكية نفسها، حيث تشكل عقلها السياسى من نزعتين متكاملتين:
الأولى دينية تتمثل فى المذهب البيوريتانى الذى استلهم الأخلاق الكالفينية وتصورها عن المسيحى الجديد/النشيط، الذى يؤمن بمبدأ الربح والفائدة، مثلما يؤمن بالله.
والثانية فلسفية تتمثل فى المذهب البراجماتى الذى صاغ معالمه وليم جيمس، ليحرر السلوك من أى كوابح أخلاقية مسبقة، فأخلاقية الفعل تعتمد على نتيجته العملية، حيث الغاية الأساسية للفاعل هى السعادة، والسعادة تعنى النجاح والثروة.
ومن جماع النزعتين البيوريتانية والبرجماتية، جرى طلاء إرادة الهيمنة الاقتصادية كغاية جوهرية، بقشرة مثالية أخلاقية ودينية، لتذوب المسيحية فى الرأسمالية، وتولد الحضارة الأمريكية.
فى النصف الأول من القرن العشرين نجحت أمريكا فى إقناع الآخرين بأنها قوة أخلاقية، خصوصا بعد أن طرح الرئيس ودرو ويلسون مبدأه الشهير حول حق تقرير المصير، الذى أسهم بنصيب فى تدشين ديناميكية عصر التحرر الوطنى التى أنهت الحقبة الاستعمارية بعد ذلك بربع قرن.
فى الموازاة بدأ الحديث عن الحلم الأمريكى كأفق مثالى يتصور الولايات المتحدة وطنا بالفكرة أكثر مما هى بالجغرافيا, ويرى أن الأمريكيين ليسوا مجرد القاطنين مابين الساحل الشرقى والغربى, ومابين الحدود الكندية والمكسيكية, بل هم جميع الحالمين بالعدل والهاربين من الظلم والعنصرية. غير أن النصف الثانى للقرن نفسه شهد تحولها إلى قوة امبريالية، تدخلت فى عشرات الدول فى شتى أرجاء العالم، خصوصا فى أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا ضد النظم التقدمية والوطنية، ولصالح النظم الرجعية والعميلة، بغض النظر عن ديمقراطيتها أو شموليتها، حتى إنها تحالفت مع قلب الدين حكمتيار زعيم الحزب الإسلامى فى أفغانستان، فيما كان أتباعه يلقون الحمض على وجوه النساء اللاتى رفضن ارتداء الحجاب.
بنهاية الحرب الباردة وقعت عمليتان عدوانيتان متشابهتان. غزو بنما، واحتلال الكويت. الأول اعتبر حدثا عاديا لأن الفاعل هو أمريكا. أما الثانى فكان كارثيا يستدعى حشد العالم كله حتى لا يتهدد السلام العالمى لأن الفاعل هو العراق.
وعبر ثلاثة عقود ونيف، كانت أمريكا تنحرف باضطراد نحو النرجسية والفردية والهيمنة بفعل الطفرة الكبيرة فى قوتها الشاملة عقب انهيار القطب الثانى فى النظام العالمى، وتدنى التحدى الاستراتيجى لها من القوى التالية له، فاحتفظت لنفسها بحق تعريف ما هو شرعى وما هو غير شرعى، ومنحت لنفسها الحق المطلق فى تفسير ماهية الاعتبارات الإنسانية، بل فى عقاب الخارجين على معاييرها بعيدا حتى عن الشركاء الأوروبيين.
وعلى الرغم من ذلك الإرث الإمبريالى الطويل الذى لا مراء فيه، ثمة جديد يحدث الآن، يمثل منعطفا فى تاريخ الإمبراطورية الأمريكية، يتعلق باستثنائية المجزرة التى تدور وقائعها فى غزة، بدعم عسكرى واقتصادى وسياسى أمريكى غير محدود، يحول دون وقفها.
نعم استخدمت أمريكا الفيتو كثيرا فى الماضى دون وجه حق، خصوصا فى الصراع العربى الإسرائيلى للحول دون إدانة إسرائيل أو حصول العرب على أى حقوق. لكن ذلك كله جرى فى ظروف شبه طبيعية، وضمن ملابسات سياسية تسمح بالضغط والمساومة وليس فى ظروف بالغة الاستثنائية تشهد وقائع جريمة الإبادة الجماعية مصورة على الهواء مباشرة، يراها الناس فى العالم كله، ويدينها أغلبهم حتى الأمريكيون أنفسهم، لكن النظام الأمريكى وحده يدعمها جوهريا، سواء كان عن رؤية غير إستراتيجية ولا أخلاقية، أو عن عجز مريب فى مواجهة يمين إسرائيلى متطرف، ورئيس حكومة لا يرى ملاذا آمنا لشخصه سوى استمرار الجريمة. وإذ يحدث ذلك كله بسلاح أمريكى، وفى ظل حصار بحرى أمريكى لشواطئ غزة، يضمن لإسرائيل القتل والإبادة على مهل، يبدو الجرم الأمريكى استثنائيا ليس لحجمه فقط بل لنوعه، فأمريكا التى اعتدنا أن ندينها كفاعل قوى، يلعب دور الفتوة فى العالم والإقليم، صرنا ملزمين باحتقارها كنائب فاعل، مثل شخص يضع نفسه فى خدمة سيده، ويجعل من نفسه أسيرا لأهوائه ونزقه، وذلك هو الانحطاط بعينه.
salahmsalem@hotmail.com
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية