تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > صلاح سالم > انتفاضة الطلاب بين 1968 و2024

انتفاضة الطلاب بين 1968 و2024

اشتعلت ثورات الشباب عام 1968 فى دول الغرب الأوروبى والولايات المتحدة، انطلاقا من فرنسا، حيث كانت نواتها الصلبة هى حركة الطلاب التى اندلعت فى شوارع باريس مساء 11 مايو، واستمرت ساخنة تقيم المتاريس وتقطع الشوارع لنحو ثلاثة أسابيع، قبل أن تهدأ بتراجع دعم الحركات العمالية لها، من دون أن تحقق أهدافا سياسية كبرى،

لكنها تركت بصمة لا تنكر فى ضمير الإنسانية المعتل آنذاك من وطأة الحروب الساخنة، المدفوعة بالرغبة فى الهيمنة كحرب فيتنام التى راح ضحيتها ملايين البشر، أو بالحرب الأيديولوجية الباردة بين القطبين والعالمين الشيوعى والرأسمالى، وما تمخض عنها من حروب بالوكالة فى أربعة أنحاء الأرض.

أبدى الطلاب آنذاك نوعا من التمرد السيكولوجى على التيار السائد، بلغ حد الامتناع عن الدراسة فى جامعات بلادهم الكبرى، وعن الخدمة العسكرية فى جيوشها، ورفض الثقافة المهيمنة على مجتمعاتها ومحاولة خلق ثقافة بديلة تؤسس لمجتمعات أكثر عدالة وإنسانية وروحانية.

كانت الحداثة قد بلغت نقطة ذروتها، وبدت العلمانية أقرب إلى ديانة إنسانية خصوصا بعد أن اعترفت بها الكنيسة فى المجمع الفاتيكانى الثانى (1962 ـ 1965). والبادى لنا أن الثائرين كانوا جوعى لنوع من الروحانية فى عصر خفت فيه صوت الإيمان. لم يكن احتجاجهم رفضا للعقلانية ذاتها أو العلم نفسه، بل لأشكالهما الأكثر تطرفاً، والتى كادت تشكل نزعة أرثوذكسية جديدة، تطلب من البشر المحدثين عبادتها، بعد أن أصبح العلم بمثابة نبى العالم الجديد، الذى يحتكر تفسير الوجود بشموله وكليته، ولا يكتفى بحدود الطبيعة والواقع، كما يرفض أى أسلوب غير مادى للحياة، التى باتت أسيرة لمجموعة من الحتميات المحكومة بقانون التقدم التاريخي. ولأن المكون الميتافيزيقى أصيل فى الكائن البشرى، نبتت الحاجة إلى إيمان جديد ولكن دون أبنية سلطوية تتأسس حوله، إيمان روحى نقى وبسيط بالإنسانية والحرية والعدالة.

ولذا اتسمت ثورات هذا الجيل ببراءة ظاهرة، تجمع بين كل الأطياف الأيديولوجية الرائجة آنذاك، وتدمج بين كل الشعارات الممكنة، وتستلهم جوهر النزعة الرومانسية التى كانت تغلغلت فى الأدب والفن والفكر ضد جفاف عقلانية عصر التنوير فى نهاية القرن الثامن عشر، أو ضد التحولات الاجتماعية التى رافقت الثورة الصناعية فى القرن التاسع عشر، وما تولد عنها من اغتراب نفسى عميق.

مرت خمسة عقود وست سنوات قبل أن تندلع حركة طلابية جديدة تشبه القديمة وتخالفها فى آن. تخالفها فى أن أعضاءها لا يرفعون شعارات عامة بل مطلبا محددا، يتمثل فى وقف استثمارات جامعاتهم داخل إسرائيل أو فى الشركات الكبرى التى تتعامل معها وتستثمر فيها، خصوصا أمازون وجوجل، لأن تلك الاستثمارات تمثل رافدا مهما يغذى قوة إسرائيل وتزيد من وحشية جرائمها التى ارتكبتها ولا تزال ترتكبها، فيما تعجز عن وصفها الكلمات. وتخالفها فى انطلاقها من كبريات الجامعات الأمريكية وليس الفرنسية، وعلى رأسها جامعات برنستون وهارفارد وأخيرا كولومبيا، موطن إبداع الراحل إدوارد سعيد، ومركز إلهام انتفاضة 1968، وهو أمر نفسره بأن الولايات المتحدة هى الدولة الوحيدة القادرة على ردع إسرائيل؛ كونها الطرف الذى يوفر لها الدعم الاقتصادى والعسكرى الكافى لاستمرارها فى العدوان.

وفى المقابل، فإنها توافقها فى الغاية الرئيسية، أى فضح الظلم فى عالم فقد مروءته وإنسانيته، تجرى فيه المذابح مصورة على مرأى ومسمع الأشهاد، دون أن يتحرك لردع المجرم القاتل. كما توافقها فى تأكيد أن الشباب دوما هم ضمير العالم، كونهم يتمتعون بقدر من البراءة لم تنل منه الحياة، ونوع من الطهرانية الأخلاقية لم تدنسه المصالح السياسية، ولذا فإنهم لا يجمعون ضد أمر إلا كان مخزيا ومؤلما للضمير الإنسانى.

ليس مؤكدا أن تنتج الاحتجاجات الراهنة أثرها المرجو، فثمة عوائق كثيرة تقف فى طريقها، يأتى على رأسها الاتهامات الإسرائيلية الصادرة من أعلى المستويات السياسية بكونها معادية للسامية. إنه بالقطع اتهام مضحك، فهى بالقطع تعادى إسرائيل الدولة المجرمة التى تحاكم الآن أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية، وليس اليهودية كعقيدة وثقافة أو حتى اليهود كشعب، بل إن بعض أبرز الناشطين فيها من اليهود، إلا أن مهمة دحضه على بساطتها العقلية تظل صعبة واقعيا، لأن عموم اليمين الأمريكى يؤيدون هذا الاتهام، وأن الجمهوريين يتبنونه، وبعض الديمقراطيين يزايدون عليهم للدوافع الانتهازية المألوفة، ناهيك عن لوبى رجال الأعمال الصهاينة من المتبرعين للجامعات. وعلى هذا فالطبقة السياسية لا تزال مناوئة للاحتجاجات رغم دعم النخبة الأكاديمية وبعض المثقفين وعموم الشباب خارج أسوار الجامعات. بل إن الكونجرس لم يتوان عن محاولة قمعها منذ بدايتها، باستدعاء رؤساء تلك الجامعات ومساءلتهم وتوبيخهم وتكليفهم بوأدها، مما اضطر بعضهم إلى الاستقالة احتراما لحرية التعبير، وصولا إلى اقتحام الشرطة جامعة كولومبيا لفض الاعتصام فى الثامن عشر من أبريل الحالى واعتقال مئات الطلاب من الناشطين، وقيام السيدة نعمت شفيق، رئيسة الجامعة ذات الأصول المصرية، بفصل خمسة عشر أستاذا وطالبا.

ولكن المؤكد أن تلك الاحتجاجات ستنال من سمعة إسرائيل إلى الأبد، خصوصا أن قمع الاحتجاجات لم يوقفها بل أوصلها إلى اللحظة الحرجة التى تحولت فيها إلى انتفاضة عامة سرعان ما انتقلت شرارتها إلى عشرات الجامعات خارج أمريكا، خصوصا سيدنى فى استراليا، ومعهد العلوم السياسية فى باريس، والأغلب أن تتسع رقعتها كثيرا فى الأيام المقبلة، تحركها الدوافع الأخلاقية السامية وتلهمها التطلعات الإنسانية العادلة.

salahmsalem@hotmail.com

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية