تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

بالأمس، مرت الذكرى الخمسون لرحيل السيدة أم كلثوم (3 فبراير 1975)، ولا نزال نبكى على أطلالها ونحن إلى سيرة الحب كما روتها، ونبحث عن وجه الوطن بين سطورالقصائد التى غنتها.

لقد استمر حضورها الطاغى فى وجداننا رغم أنف الزمن، معيارًا لكل ما هو أصيل فى الفن والثقافة والوطن؛ فلم تكن «الست» مجرد مطربة تملك صوتًا جميلًا، بل أيقونة فنية تعى دورها وتؤمن برسالتها، الغناء لديها عمل مقدس، وكما أن لكل مقدس طقوسه التعبدية التى تصل بمؤمنيه إلى حالة النشوة الروحية، فقد كان لها طقوسها التعبيرية، بدءا من اختيار الكلمة بعد تدقيق، واللحن عبر إحساس، وصولا إلى الغناء بكل صدق مثل روح هائمة تحلق فوق جمهور متذوق، سرعان ما انطبع تلقيه فنها بأقصى درجات الاحترام الصادق وصولا إلى النشوة الفنية الكاملة.

هذا الطقس الكلثومى، بلا شك، هو ربيب التصور الحداثى لدور الفن العالم، ولدور الفنان المثقف كذات مبدعة لجل القيم الإنسانية، تلعب دور المشرع الجمالى والأخلاقى للمجتمع الحديث، فالفنان المشرع هو الابن الطبيعى لفلسفة الحداثة وما أنتجته من فهم للذات الإنسانية يقر بمركزيتها فى التاريخ، ويعترف بقدرتها على تغذية المثل العليا والفضائل الجماعية، التى يتم تداولها والاحتكام إليها داخل هذا التاريخ.

 

تكاد تشكل حياة أم كلثوم، فى نشأتها وتحولاتها، ما يشبه الأسطورة.

لقدولدت فى بيئة ريفية، هى قرية طماى الزهايرة بالسنبلاوين دقهلية، بنتًا لمنشد تقليدى مخلص لفنه الذى تربى عليه هو الشيخ إبراهيم البلتاجي. اكتشف الأب موهبة ابنته مبكرًا فأحسن تدريبها، وحضهاعلى حفظ القرآن الكريم، ما أكسبها سلامة اللسان.

وعندما ذاعت شهرتها فى محيطها الريفى نادتها القاهرة، لتذهب إليها فى رعاية الشيخ أبو العلا محمد الذى وضعته الأقدار فى طريقها بصدفة تكاد تكون معجزة، ليعرفها هو الآخر على الشاعر أحمد رامى الذى تعرف من خلالها على الموسيقار محمد القصبجى،

وهكذا أخذت دائرة حياتها تتسع، وموهبتها تُصقل، وثقافتها تنمو لتصبح، عبر عقود خمسة واكبت تحولات مصر من الملكية المطلقة إلى الملكية الدستورية إلى الجمهورية، بمثابة الأيقونة التى لا تتكرر: كوكب الشرق.

فى كتابه القيم «أم كلثوم.. الشعر والغناء»، الصادر عن مركز أبو ظبى للغة العربية، يذكر د.أحمد يوسف على (أستاذ النقد الأدبى والبلاغة بكلية الآداب جامعة الزقازيق)، أن الناقد الفنى اللبنانى فيكتور سحاب فى كتابه «السبعة الكبار فى الموسيقى العربية»، قد وضع أم كلثوم على رأس سبعة من مبدعى الفن العربى الحديث، ولدوا جميعًا خلال ربع قرن (1892 ـ 1917)، وبلغوا من العبقرية فى الموسيقى والغناء حدًا قلما يتكرر لأمة من الأمم فى هذا الزمن القصير وهم:
ـ سيد درويش، الذى وضع أسس التعبير المسرحى والتمثيلى فى الموسيقى العربية.
ـ ومحمد القصبجى الذى وضع ملامح المونولوج الوجدانى العربى وثبت أصوله.
ـ والشيخ زكريا أحمد الذى طور الدور والطقطوقة.
ـ ومحمد عبدالوهاب الذى طور القصيدة وأنشأ الموال فى أغنية مستقلة ووضع ملامح الأغنية السينمائية.
ـ ورياض السنباطى الذى ثبت شكل الأغنية التى تُؤدى على المسرح وأضفى على الموسيقى العربية نفحة صوفية.
ـ وأسمهان التى مزجت بين أساليب الغناء العربية مع الأساليب الغربية.

ـ أما كوكب الشرق فى تصوره، فهى التى عاندت أحكام الأسطوانة ومددت عمر الأغنية المسرحية الطويلة فى وقت صدور الحكم بزوالها. ولعلنا نضيف إلى ذلك أنها من نقلت الغناء من مربع الطرب إلى ذروة الفن، والمطرب من دور المسلى إلى دور الملهم.

وهنا يكشف لنا د. أحمد يوسف عن أحد أسرار الاستثناء الكلثومى، وهو علاقتها الخاصة بالشعر العربى، موثقا غناءها لخمسين شاعرًا من المصريين والعرب، بينهم 37 شاعرًا مصريًا وثلاثة عشر عربيًا. يتقدم المصريون الستة الكبار:
ـ أحمد رامى بنصيب الأسد، وما نسبته 46.7%.
ـ وبيرم التونسى 12.38%.
ـ ثم أحمد شوقى وعبدالفتاح مصطفى بـ 3.5%.
ـ وعبدالوهاب محمد 3.17%.
ـ وطاهر أبو فاشا بـ 2.9%.

أى أن هؤلاء الستة أبدعوا كلمات 66.76% من أغانيها. أما بقية الشعراء الأربعة وأربعين فقدموا لها34.25% فقط من أغانيها، حيث غنت لشعراء عرب قدامى من العصر العباسى الأول مثل بكر بن النطاح، والعباس بن الأحنف. ومن العصر العباسى الثانى لأبى فراس الحمدانى، والشريف الرضى. ومن عصر الدويلات والإمارات لأبى الحسن سعدالله الدجاجى، وابن النبيه، وصفى الدين الحلى. وأخيرًا غنت لشاعر القرن الثامن عشر عبدالله الشبراوى. أما الشعراء العرب المعاصرون فهم أحمد العدوانى، من الكويت، وعبدالله الفيصل من السعودية، وجورج جرداق من لبنان، ونزار قبانى من سوريا، والهادى آدم من السودان. ومن خارج الثقافة العربية غنت للشاعر الفارسى عمر الخيام رباعياته التى ترجمها إلى العربية أحمد رامى. وللباكستانى محمد إقبال قصيدته حديث الروح التى ترجمها من الأوردية إلى العربية محمد حسن الأعظمى، وصاغها شعرا الصاوى على شعلان.

وهكذا ربطت أم كلثوم زمنيا بين الموروث الشعرى فى أزهى عصوره، وبين الحاضر الشعرى فى أبهى نماذجه عند شوقى ورامى وحافظ إبراهيم وإسماعيل صبرى وعزيز أباظة.

كما ربطت بين هؤلاء وشعراء العامية كبيرم التونسى ومأمون الشناوى ومرسى جميل عزيز وصلاح جاهين. بل يمكن القول إنها قد ربطت الفن المصرى بالدائرتين العربية والإسلامية، فجسدت فنيًا هوية مصر الثقافية. وفضلا عن ذلك، فقد حرصت على الجمع بين جل الأشكال الفنية المعروفة، فبجانب القصيدة التى تميزت بها، غنت الدور والطقطوقة والموال، الأمر الذى حقق لها قدرا كبيرا من التنوع، زاد من قدرتها على إرضاء أذواق عريضة، وضمن لتراثها الخلود. فليرحمها الله رحمة واسعة بقدر ما أعطت لفنها ووطنها.

salahmsalem@hotmail.com

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية