تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > صلاح سالم > الذكاء الاصطناعى.. وأخلاق ما بعد الحداثة

الذكاء الاصطناعى.. وأخلاق ما بعد الحداثة

فى كتابه «سؤال الأخلاق فى مشروع الحداثة» يواصل د. أحمد زايد مساءلة الثقافة المعاصرة، كاشفا عن التحول الأخلاقى الجارى فى ظلها، من الارتباط بالأنساق الاجتماعية إلى الارتباط بالذوات الفردية وتأويلاتها الخاصة، حيث غابت الأنساق النظرية أمام الحضور المتزايد للممارسة العملية، وبالذات فى ظل هيمنة وسائط التواصل التكنولوجى التى جعلت جل المجتمعات أسيرة للانكشاف والتدفق والسيولة. غير أنه يميز بين تيارين أساسيين فى الثقافة المعاصرة:

 

الأول ينظر إليها باعتبارها مرحلة جديدة/ فائقة من الحداثة، تختلف عن مرحلتها الكلاسيكية فى نمط تدفقها وسرعة جريانها. هذا التيار، ورمزه الأبرز هو الفيلسوف الألمانى يورجن هابرماس، يعترف بنوع من النسبية الأخلاقية و لكنه يسمح باستمرار مفهوم الذات كفاعل أخلاقى قادر على تطوير أفكاره وقيمه ومعتقداته بحسب موقعه فى المجتمع، ما يعنى استمرار معيارية العقل وإن تأثر الخطاب الأخلاقى هنا بانتماء الفرد الطبقى والجنسى والعرقى، فالفرد يفهم ويئول القيم الكبرى كالعدل، مثلا، انطلاقا من موقعه الاجتماعى وليس من مبادئ قبلية كما كان الأمر فى ظل مرحلة الحداثة الكلاسيكية.

أما الثانى، وهو الأكثر شيوعا/ فينظر إلى الثقافة المعاصرة باعتبارها مرحلة جديدة تماما تحمل وصف ما بعد الحداثة، وهو الاتجاه الذى كان شقه المفكر الفرنسى فرانسوا ليوتار فى كتابه الصادر عام 1979 بعنوان «الظرف ما بعد الحداثى»، وما تلاه من فلاسفة التفكيك الفرنسيين بالذات. ورغم أن المفكر البولندى زيجمونت باوند يسمى المرحلة الراهنة فى الثقافة المعاصرة بالحداثة السائلة، ولا يعتمد مفهوم ما بعد الحداثة، فإنه أبرع من استخلصوا النتائج الأخلاقية لفلسفة ما بعد الحداثة، التى اندفعت الأخلاق خلالها إلى نوع من السيولة الكاملة، فلم تعد ملتزمة بالعقل حسب أى تأويل تاريخى، بل صارت أسيرة للعواطف والانفعالات والوجدان الفردى المحض. فالمجتمع ما بعد الحديث لدى باوند مجتمع غامض، سريع التحول، لا يمكن الوصول فيه إلى يقين قط، ولا معنى فيه للمعايير المسبقة، وحتى لمفهومى الخير والشر التقليديين، فالاختيار الأخلاقى لم يعد بين الفضيلة والرذيلة بل بين حلول عملية لمشكلات متجددة يطرحها الواقع السائل والمتغير باستمرار.

وإذ شاعت ثقافة الاستهلاك فى مجتمعات المابعد (الحداثة، الصناعة) فقد أفضت إلى ما يسميه المؤلف بـ «الوهن الأخلاقي»، حيث تتمركز الأخلاق حول المفاهيم المادية كالمنفعة المباشرة واللذة الحسية. ويجرى الاهتمام بالجسد بغية تحسين القوام والمظهر، وكذلك فعالية الأداء الجنسى، بما يصاحب ذلك من ازدهار صناعات العرى والإثارة القائمة على تسليع الجسد البشرى، خصوصا الأنثوي.

وفى المقابل يجرى التوقف عن متابعة القضايا العامة والوطنية، ما يفضى تدريجيا إلى ضمور مفهوم الواجب الأخلاقى وتفتت الحس الإنسانى المشترك.

ثم يأتى ما يسميه المؤلف بـ «الهلع الأخلاقى» الناجم عن تعدد مصادر التهديد فى «مجتمع المخاطر»، الذى تتوالى عليه الكوارث، سواء البيئية كالتصحر والتلوث، أو البيولوجية كالأوبئة الناجمة عن الصراعات السياسية والمنافسات الاقتصادية بين الشركات المصنعة للقاحات والأمصال. أو الإلكترونية كالاحتيال فى عمليات دفع الفواتير والتلاعب بالشيكات والحسابات البنكية وبطاقات الائتمان وبوالص الشحن. أو عبر الخداع فى عمليات البيع والشراء لسلع فاسدة، أو حتى غير موجودة. ناهيك عن الابتزاز بتسريب أو التهديد بتسريب الصور والمحادثات ذات الطابع الشخصى إلى الفضاء العام. فضلا عن جرائم التنمر/ البلطجة الإلكترونية التى تستخدم وسائل الشبكة العنقودية فى السخرية من الآخرين، أو إغاظتهم عبر ظاهرة التحفيل التى يمارسها جمهور الأندية المتنافسة كرويا. أو التحرش بالآخرين لفظيا أو جسديا، أو حتى بث الشائعات والأخبار الكاذبة عنهم، وهو ما قد يتجاوز مستوى الفرد إلى مستوى الشركات والكيانات المتنافسة، حيث يجرى بث الشائعات حول جودة وخطورة السلع المختلفة مما يمثل تلاعبا بالأذواق والأسواق.

أما الأخطر فى علاقة الأخلاق بمجتمعات ما بعد الحداثة فيتمثل فى الفتوحات البيوتكنولوجية، والذكاء الاصطناعى، حيث تطرح التطورات الجارية فى هذين الحقلين عشرات الأسئلة والإشكاليات الأخلاقية. فالبيوتكنولوجيا تفرض نفسها على الطبيعة الإنسانية، فتفسدها فى رأى البعض أو تحسِّنها فى نظر الآخرين. فمن جهة يمكنها تحسين الصحة العامة بإنتاج أعضاء بديلة تعمل كقطع غيار بشرية، أو إطالة مرحلة الشباب من خلال التعديل الجينى، خصوصا بعد اكتشاف خريطة الجينوم البشري. لكنها من جهة أخرى تثير مخاطر التسلط والمراقبة على البشر عن طريق زرع شرائح الكترونية فى الجسد أو من خلال توصيل الأدمغة البشرية نفسها بشبكة الانترنت مباشرة وجميعها أهداف يجرى العمل عليها حاليا، بما يثيره ذلك من إشكاليات سياسية تخص التوجيه الأيديولوجى للأفراد كناخبين يصيرون والحال هذه أشبه بالقطعان البشرية. أو إشكاليات أخلاقية كالعنصرية التى تنجم حتما عن التمييز الكبير بين معدلات الذكاء المرتفعة لدى المجتمعات المتقدمة تكنولوجيا، والأخرى المتخلفة.

أما الذكاء الاصطناعى فيطرح عشرات الأسئلة على المجتمعات البشرية فى الراهن وفى المستقبل القريب، أهمها حول مصير الإنسان الذى تؤدى زيادة معدلات الأتمتة إلى استبعاده من عشرات الوظائف والمهام التى كانت مألوفة لديه، وهل يمكن له أن يجد وظائف بديلة، أو يندمج فى أنماط عيش وطرائق حياة مختلفة غير تلك التى أفسدها الذكاء الاصطناعى، أم أنه سيعيش فى ظل تلك الأنماط نفسها بعد أن جرى تشويهها؟. وأيضا حول ذلك التفاوت المتصاعد بين الطبقات الفقيرة والثرية داخل المجتمع الواحد، أو بين المجتمعات وبعضها البعض لمصلحة ملاك التقنية، والذى سيصل بفعل الذكاء الاصطناعى إلى مستوى الاستقطاب. وربما كان السؤال الأخطر الذى نختتم به حديثنا: إلى مدى يظل الذكاء الاصطناعى تحت سيطرة الذكاء البشرى، وهل يمكن له أن ينفلت من تلك السيطرة، فينقلب على الإنسان ويدمره؟.

salahmsalem@hotmail.com

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية