تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الأهلى حدوتة مصرية

ها هو الأهلى يكرر رحلاته الظافرة، ويواصل كتابة التاريخ الكروى للقارة السمراء، بتعادله الإيجابى مع الوداد البيضاوى الشقيق، وعودته بالبطولة من قلب ملعب محمد الخامس الصعب.

توقعت النصر، بل كنت على يقين منه، حتى إننى سطرت هذا المقال صباح الأحد، أى قبل المباراة، فكان الأهلى كالعادة عند حسن ظنى، ليثبت من جديد أنه حدوتة مصر الكروية، صانع البهجة الأعظم للأغلبية الساحقة من المصريين الذين يتنفسون كرة القدم، ويعيشون فيها ومعها مشاعر زهو وانتصار تسمو بهم، ولو نفسيا، على آلام الحياة ومصاعبها.

 

تظل جماهيرية الأهلى داخل مصر هى رصيده الأغلى، رأسماله المعنوى الضخم، الذى لا يُشترى، ولا يُصطنع، إنها الوجه الآخر لحدوتة مصر نفسها، كمجتمع متماسك، لا يعانى أى انقسامات حادة، عرقية أو إقليمية أو دينية، تمدد الأهلى بتلقائية فى كل بقاعه على نحو استثنائى لم يتوافر لأكبر أندية العالم، التى قد تجد مشجعين خارج أوطانها لكن يقتصر تشجيعها داخليا على أهل مدينة كحال ليفربول، أو ميلان، أو إقليم كحال برشلونة. هذه الشعبية الطاغية التى تزيد اليوم على الثمانين مليونا فى مصر وحدها، هى التى تصنع شخصية الفريق، وتكسب لاعبيه السمات الإرادية والروح الانتصارية والقدرة على العمل تحت أشد الضغوط، ما يدفعهم إلى خوض المغامرة تلو الأخرى، فى محاولة دائمة لترويض المستحيل، الذى لم يعد أهلاويا.

البعض يفسر، مخطئا ومتزيدا، شعبية الأهلى الجارفة بكونه ناديا شعبويا، يشجعه العوام، فى مقابل أندية فقيرة جماهيريا، كونها تقتصر على النخب. وتلك فرية هائلة، لأن جماهير الأهلى من كل الطبقات، والفئات، أما سر اتساعها فيكمن فى قدرة ناديها العظيم على تجسيد دفق التيار الرئيسى فى الرياضة المصرية، وعلى صناعة البهجة الكروية بامتداد الوطن.

أما شعبية الأهلى فى الخارج، فتكاد تجسد دور مصر الحيوى فى الإقليم، فالأهلى نادى القرن العشرين فى إفريقيا، مثلما كانت مصر رائدة حركة تحررها فى القرن نفسه. الأهلى كبير العرب، مثلما كانت مصر قائدة لحركة تحررهم القومى، يقتبسون اسمه فى معظم بلدانهم تيمنا به، فى السعودية والإمارات وقطر والبحرين وعمان، بل إن بعض البلدان كليبيا وفلسطين واليمن بها أكثر من أهلى.

لكن عبقرية الأهلى الجوهرية تكمن فى تلك الإدارة المؤسسية التى يتمتع بها، والتى استطاعت أن تحول السند الجماهيرى من مجرد رأسمال معنوى إلى رأسمال مادى ضخم، تتولد عنه عقود الرعاية والاستثمار التى تضمن للنادى دخلا كبيرا وحضورا قويا فى ساحات المنافسة الكروية.

فالمؤسسة ليست مجرد مفهوم نظرى بل قيمة عملية، إنها الفارق الحقيقى بين مجتمع منظم وآخر فوضوى، بين العالم القديم الراكد والعالم الحديث المتقدم. إن جل الأفكار الكبيرة الحديثة كانت موجودة منذ بدايات التاريخ، نجدها عند فلاسفة مشرقيين، ويونانيين، مسيحيين ومسلمين، لكن التقدم والحداثة لم يتحققا إلا عندما تطورت المؤسسات التى تحتضن تلك الأفكار، تنميها وتحفظ استمرارها عبر الأجيال، ليبنى اللاحق على السابق، بدلا من القيام بهدمه والبناء على أنقاضه مع كل تغيير فى القيادة.

لقد صار الأهلى ناديا حديثا، يصفه الكثيرون بأنه أوروبى وإن وقع فى الجغرافيا الإفريقية، بل سموه ريال مدريد إفريقيا. حدث ذلك لأنه بات مؤسسة حقيقية، تتجدد باستمرار على نحو سلمى دون فوضى أو اضطراب، عبر آليات ديمقراطية راسخة، تنقل مهمة القيادة عبر الأجيال من رموز وضعت أسس البناء، إلى رموز استمرت فى تعليته رأسيا حتى وصل إلى عنان السماء. إلى رموز اختارت التوسع أفقيا بنشر مظلة النادى واستقطاب الأعضاء فى أربعة أنحاء العاصمة. إلى رموز انفتحت على عالم الرياضة الجديد، الذى استحال سوقا رأسمالية، فهمت آلياته وتعاطت مع متغيراته، فأجادت توظيف جماهير ناديها فى جلب العوائد وترسيخ المكانة حتى بات قبلة للاعبين والمدربين. فى المؤسسة يعرف كل فرد دوره فلا يسطو على أدوار الآخرين مهما كان موقعه. بل إننا وجدنا الكابتن محمود الخطيب، ينكر ذاته ويقدم أصغر أعضاء مجلس الإدارة رئيسا للبعثة فى الدار البيضاء، يصطف مع الكبار لتسليم ميداليات وكأس الحدث الكبير، فيما يتوارى هو واثقا وممتلئا، عكس كذابى الزفة، الذين يتكالبون على الكاميرات حتى فى أتفه الأحداث، وتلك لقطة يتوجب دراستها، ممن يريدون ولو القليل من نجاح الأهلى العظيم.

يخوض الأهلى غمار المنافسات فى عشرات الألعاب الفردية والجماعية، ينتصر عادة، ويخسر قليلا، كاستثناء ضرورى يثبت القاعدة ويذكرنا أن الأهلى مؤسسة تعمل فى الحدود الإنسانية. فقيمة المؤسسة لا تكمن فى أنها لا تخسر أبدا، بل فى قدرتها على تجاوز انكساراتها والنهوض من جديد.

 خسر الأهلى فى العام الماضى فرصة تحقيق الفوز الثالث على التوالى بدورى الأبطال الإفريقى كرقم قياسى جديد، وهو أمر أصابنى بحزن شديد استمر لأسابيع، بل أصابنى بأرق استمر لأيام لم تفلح معه جميع المهدئات. حدث ذلك نعم فى ظل ظروف معقدة، تحت وطأة الشعور بظلم مركب من إهمال اتحاد الكرة الذى أضاع عليه فرصة المنافسة على تنظيم المباراة النهائية، ووضعه فى مأزق اللعب على أرض منافسه. ومن تنفيذية الكاف التى تلاعبت لمنح المغرب الشقيق امتيازا كان قد حصل عليه فى العام السابق مباشرة. ولكنه حدث أيضا لأن الفريق فقد يقظته ولم يستعد للمباراة جيدا، فالأهلى عادة لا يهزمه المنافسون، بل يُهزم أمام نفسه عندما يفقد يقظته. أدركت المؤسسة خطأها، ولم تكرره هذا العام، فكانت الخسارة الاستثنائية نقطة انطلاق إلى نصر جديد فى الملعب نفسه وعلى المنافس ذاته، إلى تلك الفرحة الطاغية بالكأس الحادية عشرة.. شكرا يا أهلى.

salahmsalem@hotmail.com

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية