تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > صلاح سالم > اعتذار أسامة الغزالى حرب

اعتذار أسامة الغزالى حرب

ثمة ظاهرة ثقافية عربية يمكن ملاحظتها بالعين المجردة تتعلق بالمراجعات والتحولات التى مارسها رواد التجديد الفكرى عبر ثلاثة أجيال، امتدت بطول القرن العشرين، تلت جيل آباء النهضة فى النصف الثانى للقرن التاسع عشر. لم تكن الظاهرة واضحة لدى جيل الآباء،
لأن الفكر النهضوى بطبيعته توفيقي، يحاول الجمع بين الأضداد كى لا يفقد جزءا كبيرا من قاعدته الجماهيرية قبل تحقيق أهدافه. لكنها صارت جلية لدى الجيل الثانى الممتد بين أوائل القرن العشرين وأربعينياته، والجيل الثالث بين أربعينيات وثمانينيات القرن نفسه، والجيل الرابع بين ثمانينيات القرن العشرين والعقد الأول من الحادى والعشرين، الذى انتهى برحيل عابد الجابري، ومحمد أركون، ونصر أبو زيد، ولم يبق من رموزه الكبرى سوى حسن حنفى الذى رحل قبل عامين، وعبدالله العروى أمد الله فى عمره، وإن كانت أعمالهما الأساسية تزامنت مع رفاق جيلهم.

تميزت الأجيال الثلاثة بالخصوبة الفكرية، والسقوف النظرية العالية، والعكوف الطويل على مشروعات تجديد استغرقت مراحل الحياة المختلفة لدى بعضهم، حيث وقعت التحولات ودار الجدل حولها. فى موازاة الجيل الأخير من المجددين الفكريين كان ثمة تيار من الكتاب السياسيين، لم يهتموا بالتنظير الفلسفي، بل بإعادة قراءة الواقع السياسى العربى فى ضوء التحولات الكبرى من قبيل انهيار الاتحاد السوفيتى حيث جرى الانتقال من اليسار الماركسى إلى اليمين الديني، وإلى الفكر الليبرالي. أو الصراع العربى الإسرائيلي، حيث جرى الانتقال من إستراتيجية مجابهة إسرائيل وحصارها لنقض شرعيتها، إلى دعاوى التعايش الطبيعى معها لضرورات بدت مقنعة لأصحابها.
انطوى هذا التيار على أسماء بارزة شاركت فى تشكيل تحالف كوبنهاجن للسلام، زار بعضها إسرائيل، على رأسها الراحلان الكبيران لطفى الخولي، وعلى سالم، ثم د. مراد وهبة، ود. عبدالمنعم سعيد. وفى هذا السياق اندرج د. أسامة الغزالى حرب، الباحث الكبير الذى صنع اسمه داخل مركز الدراسات الإستراتيجية بالأهرام، متخصصا فى الصراع العربى الإسرائيلي، قبل أن يصبح عضوا فى لجنة السياسات بالحزب الوطنى مطلع القرن الحالى وحتى 2006، ثم رئيسا لحزب الجبهة الديمقراطية المعارض لنظام الرئيس مبارك قبيل ثورة 25 يناير، وإلى ما بعدها بقليل. وهو أيضا الكاتب بالأهرام، الذى فاجأنا فى عموده اليومى باعتذار عن موقفه السابق المؤيد للتطبيع، وعن زيارته لإسرائيل قبل أكثر من عشرين عاما، والتى كانت عرضته لاتهام بشق الصف الوطنى والصحفي، وقد استغلها البعض فى الإساءة إليه كمرشح لعضوية نقابة الصحفيين آنذاك.

 

كتب د. أسامة مقاله فى عدد 19 نوفمبر الماضي، وهو للمفارقة يوم زيارة الرئيس السادات للقدس عام 1977، متأثرا بوطأة العدوان الإسرائيلى الوحشى على أهلنا فى غزة، بكل ما انطوى عليه من جرائم حرب فى حق المدنيين العزل، أودت بحياة أكثر من خمسة عشر ألفا، أغلبهم من النساء والأطفال، وخلَّفت نحو خمسين ألفا من الجرحى، ناهيك عن التدمير الكامل لبنية القطاع الأساسية حتى يحار المرء كيف تعود الحياة إليه حتى لو تحقق وقف إطلاق النار؟.

يحسب للدكتور أسامة شجاعة الاعتراف بالخطأ، وأيضا الاعتذار عنه، وهو ما نظنه استجابة لدافعين أساسيين: الأول معرفى يتعلق بتراكم الخبرات لديه مع كر سنوات العمر ككاتب ومثقف، وما يصاحب ذلك عادة من مراجعة مصحوبة بصفاء الرؤية وميل نحو الاعتدال. هذه المراجعة ليست فقط مقبولة بل طبيعية، فليس ممكنا أن يولد الكاتب مكتملا، ولا مطلوبا أن يظل قائما على أفكاره الأولي، عصياً على التطور، وليس من حقنا أن نطالبه بإدارة ظهره لما يتراكم فى وعيه من خبرات، أثبتت له أن معسكر السلام وحركة المؤرخين الجدد فى إسرائيل مجرد هامش نحيف على متن التيار الأساسى الذى يتحرك من شاطئ الصهيونية العلمانية الشوفينية إلى كهف الصهيونية الدينية المتطرفة. وأن المبادرات الإنسانية الشاهقة، التى تصورها ورفاقه ضرورية لعبور حاجز العداء، لا تكون فعالة إلا حينما تصدر من الطرف الأقوى فى الصراع، أما صدورها من الطرف الأضعف/ المفعول به فلن يزيد على كونه رسالة ضعف تزيد من غطرسته الطرف الفاعل/ المتغطرس على النحو المشهود.

وثانيهما أخلاقي، يتعلق بالرغبة فى الاتساق مع الذات، عكس الكثيرين من المتحولين لدوافع انتهازية.

ولعل من يتأمل حياة د. حرب يلاحظ تحولاته التلقائية من الناصرية كشاب ينتمى للطبقة الوسطى، ألهمته كاريزما عبدالناصر فضلا عن مشروعه التحديثي، الوطنى والاجتماعي، إلى الفكر اليسارى عقب هزيمة يونيو وانكسار المشروع الناصري، إلى الفكر الليبرالى بنهاية الحرب الباردة وانتصار الغرب الرأسمالى على الشرق الشيوعي. أما الانتقال الأكثر تعبيرا عن نزاهته الأخلاقية فهو خروجه من لجنة السياسات بالحزب الوطنى ومعارضته، كعضو معين فى مجلس الشورى، تعديل المادة 76 من الدستور عندما تبين له أنها مفصلة على مقاس مشروع التوريث، وقد ناله إثر ذلك كثير من النقد بلغ حد التشهير، وبعض من الأذى انتهى بخروجه من رئاسة تحرير مجلة السياسة الدولية.

والحق، أن ثمة دافعا ثالثا، تبلور لدى بحكم خبرتى الشخصية بالرجل منذ تعرفت عليه وأنا طالب فى الفرقة الثالثة بكلية الاقتصاد، إذ لمست فيه دماثة خلقية، مع نزعة إنسانية مشوبة بطابع رومانسي، تجعله أقرب إلى روحانية الكاتب وتلقائيته وصدقه مع ذاته، منه إلى شخصية السياسى المراوغ بطبيعته، ولعل هذا يفسر لنا جموح خياله الحالم بإمكانية التأثير فى الشخصية الإسرائيلية البالغة التعقيد عبر التطبيع. ولذا أستطيع التصريح علنا بما أسررته له سلفا، وهو أنه بتكوينه الإنسانى لا يصلح لممارسة السياسة العملية، رغم إبداعه فى التحليل السياسى النظري، فأهلا به فى بلاط الكتابة، قلما وطنيا، شجاعا صادقا.

salahmsalem@hotmail.com

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية