تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
الصين والاختراقات الناعمة عن بعد
الصعود الصينى ليس مفاجأة؛ فلقد خططت له القيادة الصينية: بتأنٍ وثقة؛ وذلك منذ المسيرة الكبرى التى قادها الزعيم التاريخى للصين ماو تسى تونج. تلك المسيرة التى عبرت خلالها الصين من زمن الاستعمار والتخلف والاستسلام للأفيون» إلى تحول تاريخى للصين نحو التقدم إلى زمن: العصرنات الأربعة Four Modernizations؛ أى إحراز التقدم فى الصناعة، والزراعة الحديثة، والعلوم والتكنولوجيا، والدفاع.
حققت الصين هذا التحول من خلال ما عُرف فى الأدبيات التى رصدت التجربة الصينية: بالقفزات التاريخية المركبة ــ الحذرة؛ ولم يكن هذا ليحدث ما لم يدرك قادة الصين المتعاقبون بعد الثورة التاريخية الكبرى ضرورة أن يسترد وطنهم ــ حسب أحد الباحثين ــ منزلته فى الشئون العالمية، تلك المنزلة التى كانت تتمتع بها منذ القرن السادس عشر وحتى مطلع القرن التاسع عشر، عندما كانت فى قلب نظام المبادلات الصناعية الدولية. انطلاقا مما سبق بلور قادة الصين رؤيتهم التاريخية، لاستعادة الصين منزلتها الدولية، والتى تقوم على العناصر التالية: أولا: أن تتبع الصين مسارا آمنا لمشروعها التنموى محصنا ضد أزمات الرأسمالية العالمية المتتالية والدائمة. ومن ثم امتلاك قدرات توجيهية للاقتصاد تُسرع أو تُبطئ من حيويته بحسب الحاجة. ثانيا: الحرص ألا يقع النموذج التنموى الصينى فى أسر التبعية الاقتصادية للغرب. ما يؤدى إلى علاقات غير متوازنة بين الغرب الرأسمالى وبين الصين يكون من نتيجتها أن تظل الصين فى حالة حاجة وعوز. ثالثا: أن تمتلك الصين نموذجا تنمويا قابلا للترويج وللانتشار فى الدول التى تبغى أن تتقدم خارج إطار التبعية للغرب. ويؤكد الصينيون ــ فى هذا المقام ــ حرصهم فى توفير كل ما يلزم لهذه الدول فى إطار شراكة طوعية لا قسرية.
ومن أجل تحقيق هذه الرؤية تبنت الصين سلوكا غير مألوف لممارسة القوة فى العلاقات الدولية تختلف عن تلك الممارسات التى مارستها ــ ولا تزال ــ الإمبرياليات التاريخية الكلاسيكية. إذ ابتعدت الصين عن استخدام القوة الصلبة المباشرة وعملت على اغتنام الفرص من خلال الشراكات الاقتصادية بالأساس لتضع قدما هنا وقدما هناك فى الجغرافيات السياسية والاقتصادية المختلفة. بدأ الصينيون فى تطبيق إستراتيجية اغتنام الفرص وممارسة سلوك القوة الكبرى المساندة للآخرين (دون ممارسة القوة الصلبة العسكرية أو السياسية) منذ الثمانينيات من القرن الماضى ولا يزالون يمارسونها. وفى هذا الإطار، يشير أحد الباحثين إلى أن هذه الإستراتيجية يعود الفضل فيها إلى أبو الإصلاحات الصينية «دنج هسياو بنج» الذى أوصى بأن تتبع الصين فى علاقاتها الدولية مبدأ: التستر على مواهبك وانتظار الفرصة الملائمة(والمعروفة بالصينية بمبدأ: طاو جوانج يانج هوى). وقد كان لهذا المبدأ نتائج فائقة الفعالية نرصد بعضها:
أولا: اغتنمت الصين مركزها المشرف داخل جماعة أمم جنوب شرق آسيا (Asean)، إبان الأزمة الاقتصادية التى شهدتها سنوات 1997 ــ 1998. فلم تكتف بعدم اغتنام فرصة ضعف جيرانها الذين عصفت بهم العاصفة المالية فحسب، بل إنها كاثرت الاتفاقات التجارية معهم وعرضت عليهم معونة نقدية. ثانيا: قيام شى جين بينج، الرئيس السابع للصين، بتأسيس البنك الآسيوى للاستثمار فى البُنى التحتية عام 2015 حيث باشر العمل مطلع 2016، الذى سارعت ما يقرب من ستين دولة إلى الانضمام له كما يلي: الدول الآسيوية كافة (باستثناء اليابان) والبلدان الأوروبية الرئيسة: المملكة المتحدة، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وسويسرا، والسويد، وإسبانيا، وبولندا، والبرتغال، والنرويج، وهولندا، ومالطا، والنمسا. وكذلك مصر، والبرازيل، جنوب إفريقيا، إيران وإسرائيل وتركيا. إضافة على أستراليا ونيوزيلندا(يمكن مراجعة الصين: بين السلطة الإقليمية والجبروت العالمى لمارتين بولارد رئيسة التحرير المعاونة فى صحيفة لو موند ديبلوماتيك الفرنسية). أسست الصين البنك الآسيوى للاستثمار فى البُنى التحتية بالرغم من معارضة الولايات المتحدة الأمريكية إذ ــ اعتبرت الأخيرة ــ تأسيس هذا البنك تهديدا موجها لكل من البنك الدولى الذى تهيمن عليه واشنطن. وضد البنك الآسيوى الذى تديره اليابان وتوجهه منفردة منذ إنشائه سنة 1966. وقد كان للخطوة الصينية أثرها فى النظام المالى العالمى حيث اعتبرها المراقبون بمثابة زلزال صغير فى عالم تحكمه وتضبطه التدفقات المالية وفقا للشروط الرأسمالية العالمية الغربية.
ثانيا: واكب الخطوة الأولى تأسيس بنك مشترك مقره شانغهاى يضم أعضاء البريكس: الصين، وروسيا، والهند، والبرازيل، وجنوب إفريقيا. ويهدف البنك إلى تمويل الاستثمارات فى البُنى التحتية، وتوفير احتياطى مالى قابل للاستخدام فى حال أى دولة من الدول الأعضاء فى البريكس تتعرض إلى أزمات مالية. وقد تم تخصيص مائة مليار دولار كرأسمال للبنك.
ثالثا: إعلان بينج إطلاق الصين لمشروع الحزام والطريق الذى يربط بين الصين وبين جنوب شرق آسيا وباكستان وآسيا الوسطى ومن ثم الامتداد إلى الشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا...إنها عملية التمدد الصينى الكونية عبر أكثر من ثلاثين دولة وقد رصدت لهذا المشروع التاريخى أكثر من 4 تريليونات دولار...وهو المشروع الذى بدأت الصين تطبيقه. ويلاقى ترحيبا أوروبيا كبيرا. ويؤكد السياسيون الصينيون أن مشروع الحزام والطريق يهدف إلى خلق نموذج إنسانى للتعاون والمنافع المشتركة لا أن يكون سبيلا للصراعات «...لذا فهى على استعداد أن تقدم خبرتها التنموية لأى دولة على قاعدة الشراكة التنموية الكونية»(راجع دراستنا التمدد الصينى 2017).
والهدف النهائى للصين عمليا هو أن تُسهم الصين فى الاقتصاد العالمى بنسبة تقترب من ال 50%...مقارنة بمساهمة أمريكا الشمالية حيث تصل نسبتها إلى 21%، والاتحاد الأوروبى حيث تبلغ مساهمته 16%... هكذا ومن خلال الشراكات الاقتصادية العملية استطاعت الصين الالتفاف على الإعاقات، وممارسة القوة عن بعد بتلك الاختراقات الناعمة العابرة للقارات، ما سيجعلها قوة تناطح أمريكا بحلول 2050...نتابع.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية