تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
الدولة «الثَكْنَة».. عزلة وعنف
قبل شهر نشرت دورية اليسار الجديد فى مفتتح عدد يوليو أغسطس 2025، دراسة تحليلية للبروفيسور سوزان واتكينز: «إسرائيل بعد فوردو»؛ حاولت فيه تحليل السلوك الإسرائيلى الحربى حيال دول المنطقة والذى بلغ ذروته فى ضرب المنشأة النووية الإيرانية الأكثر تحصينا وأهمية فى برنامجها النووي:«فوردو»؛ إذ اعتبرته سلوكا «تفجيريا غير مسبوق لبسط هيمنتها المطلقة على إقليم الشرق الأوسط». وحاولت أن تقارن بين السلوك الإسرائيلى الراهن وبين محاولات تاريخية تبدو مشابهة.
عادت واتكينز إلى ما سمته «اندفاعات الإمبراطورية اليابانية» الحربية المتعاقبة تجاه كثير من دول القارة الآسيوية من منتصف القرن التاسع عشر إلى مطلع القرن العشرين. ورصدت ثلاثة اختلافات غاية فى الأهمية بين الحالة اليابانية التاريخية وبين الحالة الإسرائيلية الراهنة.
الاختلاف الأول: أن اليابان كانت تمتلك الرغبة والقدرة معا لكى تسلك سلوكها الهجومى على جيرانيها. أما إسرائيل «فما زالت رغباتها تفوق قدراتها».
الاختلاف الثاني: كان لليابان قبل وصول السفن الحربية الأمريكية فى خمسينيات القرن التاسع عشر، تاريخ طويل من التطور الحضرى السلمي، نسبيا، فقد دخلت المسرح العالمى وهو موزع بالفعل بين القوى الإمبراطورية الكبري، ساعية لاقتطاع مكان ومكانة لها بينها، ما يحول دون استعمارها.
أما إسرائيل فقد تأسست ككيان استيطانى إثنى طائفى صغير، محاط ذهنيًا وماديًا «بـجدار من الحراب»؛ وتستدعى واتكينز المقولة التى اطلقها أحد آباء الصهيونية جابوتنسكى (1880 ــ 1940) التى يربط فيها بين الكيان الصهيونى كمشروع استعمارى وبين القوة المسلحة. (يعتبر نيتانياهو جابوتنسكى ملهمه ومرشده، وأنه يحتفظ بسيفه).
أما الاختلاف الثالث: إن اليابان، كان لديها نزوع إمبراطورى لتنمية محيطها من خلال برنامج واسع النطاق للتنمية الصناعية والبنى التحتية فى الأراضى التى غزتها، مجنّدة العمالة القسرية لبناء الموانئ، والسكك الحديدية، والمصانع، والمناجم.
أما إسرائيل، ففى نصف قرن من سيطرتها على الضفة الغربية وغزة، فقد دفعت بجزء كبير من السكان الفلسطينيين إلى حالة من التسوّل، فيما أصبح متعهدوها المقرّبون شديدى الثراء. لقد كان هدفها «التنمية المعكوسة» و «إفقار النظم» فى الدول المجاورة. فهى لا تسعى إلى الضمّ، بل إلى تفتيت الدول المحيطة، فيما تضطلع قواتها الجوية بدور المشرف الأعلي.
وفى هذا تقترب أكثر من نمط جنوب أفريقيا فى حقبة الأبارتهايد: الضربات الاستباقية، الاغتيالات المستهدِفة، وتقديم الأموال للقوى المحلية الوكيلة. لكن هدف جنوب أفريقيا كان سياسيًا: فقد كانت تقاتل حركات التحرر المتحالفة على نطاق واسع مع الاتحاد السوفييتي، بوصفها حليفًا للولايات المتحدة فى الحرب الباردة؛ وحين غاب هذا الشرط انهار هيكل الأبارتهايد (التمييز العنصري) بأسره.
أما إسرائيل الإثنية ــ القومية، فلقد كانت علاقتها أولا بالأهداف الاستعمارية البريطانية، وثانيا بالسياسات الإمبريالية الأمريكية، دوما وطيدة. يتضح مما سبق أن ما شجع السلوك الإسرائيلى الإجرامى هو اعتمادها الوجودى على قوة عظمى يشكل أتباع ديانته فيها وزنًا مهمًا.
ويمكن أن نضيف إلى ما خلصت إليه واتكينز هو قدرة هؤلاء الأتباع على نسج شبكة علاقات مع مصادر القوى الأمريكية من مؤسسات مالية وسياسية وإعلامية/بحثية يكون من شأنها ضمان استدامة الدعم لإسرائيل كى تواصل ــ إلى ما لا نهاية ــ الدور الذى تأسست من أجله.
فلقد زرعت وتشكلت إسرائيل كى تكون قاعدة عسكرية متقدمة للمركز الإمبريالى الغربي، أولًا البريطانى ثم الأمريكى (المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية) يضمن:
أولا: استدامة الهيمنة الغربية،
وثانيا: التصدى للمد الاستقلالي/القومى الذى انطلق بعد الحرب العالمية الثانية وظل متوهجا لعقدين من الزمن، والمد الراديكالي: شيوعيا كان (فى وقت ما) فدينيا لاحقا،
وثالثا: ضمان تدفق الثروات والموارد الطبيعية إلى المركز الإمبريالي. ولم تتدخر إسرائيل أى جهد فى لعب ما رسم لها من أدوار، منذ الوعد المشئوم إلى يومنا هذا، من خلال ممارستها: العنف، والتدمير، والعدوان. تلك الممارسات التى لم تتوقف بريطانيا فالولايات المتحدة الأمريكية عن دعمها فى يوم من الأيام.
فى هذا السياق، تمت هندسة الكيان الاستيطانى الإسرائيلى ليكون فى تصورى «ثكنة»، و«مختبر حرب»، حسب المؤرخ والصحفى الفرنسى دومينيك فيدال، لضمان إنجاز العملية الاحتكارية من جانب، وترسيخ الكيان الاستيطانى الاحتلالى الإبادى والتطهيرى من جانب آخر؛
ثكنة؛ «آمنة لآلة عسكرية» وعقل عسكرى تكون قادرة على ما يلي:
أولا: ردع محيطها فى أى وقت،
وثانيا: التوسع الدائم،
وثالثا: حق تحديد الحدود بالدعاوى الكاذبة وبغض النظر عن المواثيق والقرارات الدولية وحقوق الآخرين التاريخية.
رابعا: تنفيذ ما يتطلبه تحديد الحدود والردع من: تهجير وتسفير وتطهير، وإبادة، وتهويد تام.
«مختبر حرب»؛يضمن استدامة قدراتها «كثكنة» استيطانية فإنها قد عملت على أن تؤسس «مختبرا للحرب». أى ألا تكتفى الثكنة بتلقى الدعم العسكرى لممارسة الردع والتوسع وتحديد الحدود بما يتطلبه ذلك من تطهير، وإبادة، وتهجير. وإنما على الثكنة أن تكون مبتكرة ومصنعة ومصدرة للسلاح من جانب. وأن تكون مبادرة فى تنفيذ العمليات الحربية لتجريب السلاح والطرق القتالية المختلفة سواء فى مواجهة عسكريين نظاميين أو مقاومين أو مدنيين من جانب ثانٍ.
والأهم تأمين الشراكة المستمرة والممتدة والمفتوحة بين «مختبر الحرب» فى «الثكنة الطرف»: الاستيطانية الإسرائيلية؛ وبين «مختبر الحرب» فى «الثكنة المركز» فى الولايات المتحدة الأمريكية للاطلاع والتعاون والعمل المشترك لكل ما هو جديد فى الآلة العسكرية من جانب ثالث.
ويقول «فيدال» إن «واقع العيش فى حالة حرب شبه دائمة» لدولة الاحتلال الإسرائيلية قد «أتاح لها أن تراكم كفاءة استثنائية فى ميدان التسلح» ما دفعها إلى أن تشعل حروبا متواصلة على غزة فى 2002، و2008 و2012، و2014، و2019، و2022، قبل طوفان الأقصي،...
وقد أتاح «مختبر الحرب» الإسرائيلى الاستيطانى أن يجعلها من بين القمم الخمس من قمم المصدرين للعتاد العسكري.
وبعد..،
لعل ما صرح به نيتانياهو قبل أيام حول اعتبار إسرائيل «إسبرطة عظمي» (الدولة ـ المدينة اليونانية التاريخية ذات النزعة العسكرية التدميرية) إنما يعكس كيف يرى كيانه نموذجا معاصرا لتلك الدولة «الثكنة».وحول الدولة الثكنة الراهنة سنجيب فى مقال الأسبوع القادم عن سؤالين: ما دلالة هذا التصريح؟ وما مستقبل هكذا دولة؟.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية